رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي 28167010
 رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي 28167010
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

  رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي

اذهب الى الأسفل 
4 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
WaLiDo 31
المشرف العام
المشرف العام
WaLiDo 31


الأوسمة : 2
ذكر عدد المساهمات : 568
تقييم الأعضاء : 5
تاريخ التسجيل : 30/01/2011
العمر : 29

 رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي Empty
مُساهمةموضوع: رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي    رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي Icon_minitimeالثلاثاء مارس 15 2011, 15:11

رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي

يقول جبران في مقطوعته "الشاعر" من مجموعة "العواصف": "أنا غريب في هذا العالم. أنا غريب وقد جبتُ مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد مسقط رأسي ولا لقيتُ من يعرفني ولا من يسمع بي"(1).‏
إنه قول خليق بكاتب أو شاعر رومانتيكي من أولئك الذين أنجبتهم الآداب الأوروبية في أواخر القرن الثامن عشر أو أوائل القرن التاسع عشرة. ولكن جبران لم يكن واحداً ممن عاشوا في ذلك الزمن. أما مجموعته "العواصف" التي قبسنا منها المقطع المذكور، فقد نشرت عام 1920، أي بعد مئة سنة تقريباً من زمن سيادة الأدب الرومانتيكي في أوربا. ومع ذلك فـ"عواصف" جبران لم تكن ظاهرة أدبية في غير أوانها، ولم تكن مجرد نزوة أملاها مزاج أدبنا المتمرد. إنها، بمعنى من المعاني، نتاج مرحلة تاريخية محددة، ولظهورها من المسوغات ما يجعلها ظاهرة أدبية "مقنونة" ومنسجمة وتطور الأدب العربي.‏
لقد كانت الرومانتيكية الأوروبية ردة فعل أولى على الثورة الفرنسية عام 1789، وتظهر الدراسات الأدبية الحديثة أن الرومانتيكية لم تكن معادية للمجتمع البرجوازي الذي تمخضت عنه تلك الثورة، والقائم على سلطان كيس النقود فحسب، بل كانت تتسم أيضاً بالعداء للمجتمع الإقطاعي القائم على القهر وسلطان السيف. وهي، في جميع الأحوال، تقوم على نظرة إلى العالم مصدرها إدراك التناقض المأسوي المستعصي بين المثل الأعلى والواقع الذي يستحيل تحقيق ذلك المثل في أطره. من هنا تتبع غربة الرومانتيكي، بل ينبع التناقض والتقابل بينه وبين الواقع، فيندفع إلى عمق عالمه الروحي والعاطفي رافضاً بحدسه، الذي يكاد يكون غيبياً، عقلانية العالم المحيط به.‏
كل ما تقدم يحدد السمات الأساسية للفن الرومانتيكي: النبرة العاطفية العالية، والذاتية في تصوير الأبطال وتعليل سلوكاتهم، والميل إلى المبالغة والتهويل وتصوير المتناقضات، ووصف العواطف الجامحة والأهواء المدمرة، والانتقال من التشاؤم واليأس إلى الانفجار والثورة. وفيما تقدم تنزرع أيضاً جذور بحث الرومانتيكيين عبثاً عن انسجام العالم، وهو بحث يخلق عندهم اهتماماً زائداً بالظواهر الطريفة والماضي التاريخي، وانجذاباً نحو الطبيعة وتقديسها، كما يخلق التصادم بين الفرد والمجتمع عند الرومانتيكيين تصوراً بأن الفنان إنسان فوق مستوى البشر، يمتلك حرية مطلقة في إبداعه ينتج عنها ذلك التنوع الكبير في أساليب الفن الرومانتيكي، وذلك الاضطراب في منظومة أدواته الفنية.‏
ليس الفن الرومانتيكي فناً نمطياً. هذا ما يبدو واضحاً في التجليات القومية للرومانتيكية، حيث تلعب دوراً، في تنوعها إلى جانب الأسس النظرية التي أشرنا إليها أعلاه، الأزمنة المتفاوتة والظروف المختلفة لظهورها في فن هذا الشعب أو ذاك، كما يؤثر في ذلك التنوع اختلاف التقاليد الأدبية بين الشعوب واختلاف نظرتها الجمالية والمؤثرات الأجنبية في حضاراتها. ولذا لا بد، لكي نفهم أدب جبران بخاصة والرومانتيكية العربية بعامة، من أن نتوقف عند ظروف تكون التيار الرومانتيكي في الأدب العربي وتحاول الكشف عن خصوصيته.‏
لقد بدأت العلاقات الرأسمالية تكون في أقطار الشرق العربي متأخرة أكثر من مئة عام عن مثيلاتها في أوربا. وهي لم تكن متزامنة في نشأتها، فقد كانت مصر وسورية السباقتين في هذا المجال. غير أن العلاقات البضاعية –النقدية لم تصبح فعالة ونشيطة، حتى في هذين القطرين إلا في أواسط القرن التاسع عشر. أما تفسخ الإقطاعية ونشوء الفئات الاجتماعية المميزة للنظام الرأسمالي والإيديولوجيا البرجوازية، فأمور وقعت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والثلث الأول من القرن العشرين. ويمتاز انتقال البلدان العربية إلى الرأسمالية بحدوثه في ظروف النضال القومي التحرري ضد الحكم العثماني وضد العدوانية المتنامية للدول الأوروبية الساعية إلى جعل هذه البلدان مستعمرات لها. وقد ترافق نضال العرب التحرري وتنامي وعيهم لذاتهم القومية ولا سيما في سورية ومصر، حيث ولدت وترعرعت تلك الحركة التي اصطلح على تسميتها "النهضة العربية".‏
إن الشعار الأساسي لـ "النهضة" هو استعادة أمجاد العرب وقوتهم التي كانت لهم في الماضي. أما الطريق إلى ذلك فقد رآه إيديولوجيو هذه الحركة في التغلب على التخلف الثقافي الذي عانى العرب قروناً طويلة. لقد هزت "النهضة" وجدان الوطن العربي الذي شهد ميلاد حركات إصلاح ديني إسلامي ومسيحي نشطة رفعت شعارات العودة بالدين إلى نقائه الأول وطرحت تصورات عن تساوي الجميع أمام الله، وقدمت فهمها الجديد للعدالة والحق والمحبة، فصاغت بذلك كله أسس الإيديولوجيا التنويرية التي تجمع بين مناهضة استعباد الشرق العربي والدعوة إلى تثقيف الجماهير العريضة وتنويرها، وتجمع بين الاهتمام الشديد بالتراث العربي والدعوة إلى تملك منجزات الحضارة والعلوم والآداب الأوروبية. لقد استعان المنورون العرب بكثير من أفكار سابقيهم، ولا سيما أفكار المنورين الفرنسيين التي كانت قديمة إلى درجة كافية في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر، ولكنها كانت ملائمة تماماً لروح العصر في بلدان المشرق العربي. غير أن حركة التنوير العربية تشكلت في ظروف التفاعل المستمر بين الشرق وبلدان الرأسمالية المنظورة، وقد مكن ذلك المنورين العرب من أن يروا بأعينهم ما وصل إليه الغرب الأوروبي بعد مئة سنة من الثورة الفرنسية عام 1789. ومما لا شك فيه أن هذا الواقع العربي لعب دوراً مسرعاً في نشأة الرومانتيكية في قلب حركة التنوير العربي. ففي الوقت الذي كان فيه كاتب منور مثل جرجي زيدان (1861-1914) يعتقد بسذاجة أن بلدان الغرب بلدان تسود فيها الديمقراطية ويحترم رأي الأغلبية، نجد عدداً من الكتاب يهاجمون النظم الرأسمالية بغضب ومرارة، كـ"فرح أنطون" (1874-1922) على سبيل المثال. ومن اللافت للنظر، أن الرومانتيكين العرب الذين هاجموا نمط الحياة الرأسمالي لم يتنكروا، في معظم الأحيان، للمثل التنويرية، إذ أن ما يبعث خيبة الأمل في نفوسهم ليس تلك المثل، بل الواقع المناقض لها في أوطانهم وفي البلدان الأجنبية. لذا لم يتجسد تمرد هؤلاء في محاربة النظم والأخلاق البرجوازية فحسب، بل تجلى أيضاً في الهجوم الحاد على التخلف الإقطاعي الذي يفقأ العين في بلدانهم. ونحن، حين ننظر اليوم إلى إبداعات الرومانتيكيين العرب الأدبية، نرى أنها تحمل جميعاً طابع هذا التصادم المزدوج. وهكذا تبدو لنا الحدود بين الرومانتيكية والأدب التنويري في الأدب العربي الحديث رجراجة وغير ثابتة المعالم بالقياس إلى ما كانت عليه مثيلاتها في الآداب الأوروبية قبل مئة عام. وإذا كان الدارسون المعاصرون يبحثون عن جذور الرومانتيكية في أدب عصر التنوير الأوروبي ويكتشفون في الفن الرومانتيكي سمات موروثة عن ذلك العصر، فإن العلاقة بين الأدب التنويري والرومانتيكية أكثر بروزاً ووضوحاً في الأدب العربي الحديث منها في الآداب الأوروبية.‏
لقد بدأت الغرسات الأولى للرومانتيكية تظهر في مقالات كاتب منور مثل أديب إسحق (1856-1885) وخطب منور آخر كمصطفى كامل (1874-1908) وإبداعات منور ثالث كمصطفى لطفي المنفلوطي (1876-1924)، فهؤلاء الكتاب وأمثالهم من ذوي الأمزجة الرومانتيكية شرعوا في استخدام أدوات الأسلوب الأدبي التقليدي استخداماً جديداً (نعني هنا استخدام أدوات البلاغة والبديع) لا يغيب المعنى أو يعرقل وصوله إلى المتلقي، بل ينقل أدق ظلال المعاني ويزيد في قوة التأثير العاطفي للكلام المكتوب. وهذا ما تبناه وطوره إلى حده الأقصى الرومانتيكيون العرب في الثلث الأول من القرن العشرين.‏
في الوقت الذي كانت فيه الرومانتيكية تخطو خطواتها الأولى المترددة في الأدب العربي المشرقي، مطلع القرن العشرين، كان التيار الرومانتيكي قد اكتمل على أيدي كتابنا وشعرائنا في المهجر البعيد. ولعل أبرز أسباب النضوج السريع للرومانتيكية في الأدب العربي المهجري هو أن الأدباء المهجريين عرفوا من خلال تجربتهم الذاتية ما الذي آلت إليه عملياً في الغرب وعود المنورين البراقة.‏
ومن المعروف أن هجرة أبناء سورية ولبنان إلى الولايات المتحدة الأمريكية والبرازيل بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، وباتت جماعة في مطلع القرن العشرين، وأنها شملت المهاجرين الأثرياء الباحثين عن تحقيق الأرباح، والفقراء الحالمين بجني الثروة والعودة إلى الوطن، وإن عدد المهاجرين بلغ ما يعادل ربع سكان سورية (المقصود هنا سورية الطبيعية) عشية الحرب العالمية الأولى.‏
لقد كان بين المهاجرين عدد غير قليل من المثقفين الذين جربوا قدراتهم في الأدب والصحافة في أوطانهم قبل الهجرة (غالبية هؤلاء من المسيحيين الذين تلقوا دراستهم في المدارس التبشيرية الواسعة الانتشار آنذاك في سورية) وقد راح الكثيرون منهم يصدرون الصحف والمجلات في أمريكا حتى بلغ عدد هذه الصحف والمجلات عام 1910 قرابة خمسين دورية تصدر باللغة العربية في الولايات المتحدة الأمريكية.‏
يعود الفضل، في تأسيس المدرسة المهجرية في الأدب العربي، إلى الجيل الثاني من المثقفين المهاجرين، إلى أولئك الذين وصلوا إلى الأرض الأمريكية أطفالاً وتكونت نظرتهم إلى العالم وأذواقهم الأدبية تحت تأثير حضارات ثلاث: الأمريكية، والأوروبية، والعربية، علماً بأن طريقهم إلى حضارتهم القومية العربية لم تكن مباشرة دائماً، بل كانت صعبة وملتوية في كثير من الأحيان، ومع ذلك فإن هؤلاء كانوا مرتبطين روحياً أشد الارتباط بوطنهم الأم في حين ظلت أمريكا غريبة عنهم، لأنهم لم يستطيعوا تقبل العالم الغربي في سعيه المحموم إلى الكسب المادي، بل كانوا في قلق دائم من أن يسحقهم التنافس المسعور على الخيرات المادية.‏
لم يجد المهاجرون العرب في الغرب مملكة العدالة والمساواة والحرية والاستقلال، بل سرعان ما اكتشفوا أن هذه المفاهيم بعيدة جداً من التحقق الفعلي في حياته، وأن العواطف الإنسانية في المجتمعات الغربية أسيرة عتمة القوانين الاجتماعية، وأنها مكبلة بسلاسل التقاليد ومنسية في زاوية مهملة من زوايا الحضارة الحديثة. وهذا ما جعل جبران، مثلاً، يشبه قلب الإنسان بطائر يموت جوعاً وعطشاً مرمياً في روضة مزهرة على شاطئ النهر(2).‏
كذلك افتقد أدباؤنا المهجريون، ومن بينهم جبران، ما يهدئ قلقهم ويخفف من وطأة غربتهم في الشرق الذي هاجروا منه، فقد كانوا يحسون إحساساً حاداً بتخلفه وفساد الحياة فيه والتناقضات المستعصية التي تمزقه.‏
لقد واجه الأدباء المهجريون هذا العالم المعادي لروح الإنسان، بعالم أرواحهم الحية الغنية بالعواطف والأفكار واستدعى مزاجهم العاطفي لوناً أدبياً جديداً إلى الحياة تجلى في كتابات جبران على شكل مقطعات غنائية تتسم صورها ولغتها بشعرية أخاذة، عبر فيها جبران عن رفضه للعالم المادي القاسي المفتقر إلى النبالة وسمو الروح. وقد قاد هذا الرفض جبران، كغيره من الأدباء المهجريين، إلى اللجوء إلى الطبيعة التي رأى فيها خلاصاً من المآسي والخيبات. إن الهروب إلى الطبيعة كمحاولة لتجسيد عالم المثل الروحية تجسيداً حقيقياً سمة هامة من سمات الأدب الرومانتيكي ومصدر من أهم مصادر الصور الفنية عند الرومانتيكين. ولقد أنشأ جبران صوراً للطبيعة مذهلة وساطعة وحية لم يعرف الأدب العربي مثيلاً لها من قبل، إذ تبدو الطبيعة في أعماله متناغمة منسجمة حيناً، وعاصفة مضطربة حيناً آخر، ومتناقضة موارة بالصراع حيناً ثالثاً، وهي في جميع حالاتها انعكاس لروح أدبينا المبدع الذي تنامى فيه حبه للطبيعة فأصبح نوعاً من الشعور الديني مشكلاً في أدبه، لا سيما في أواخر حياته الإبداعية، محاولة لفهم العالم فهماً دينياً بعيداً عن المعتقدات الرسمية السائدة.‏
كان جبران فناناً قبل كل شيء، وهو لم يختبر موهبته الفنية في الأدب وحده، بل مارس الرسم بالفحم والرسم الزيتي أيضاً، وكانت الموسيقا فناً أثيراً لديه، فقد بدأ حياته الأدبية بمقالة متميزة عن الموسيقا ربط فيها، كأي رومانتيكي أصيل، بين الموسيقا والشعر والرسم. فرأى أن: ".. الموسيقا كالشعر والتصوير، تمثل حالات الإنسان المختلفة وترسم أشباح أطوار القلب وتوضح أخيلة ميول النفس وتصوغ ما يجول في الخاطر ونصف أجمل مشتهيات الجسد"(3) وهو لم يكتف بذلك بل جعل سلطاتها شاملاً لكل جوانب النفس الإنسانية "فالموسيقى هي لغة النفوس"(4) وهي "ابنة النفس والمحبة" و"مرارة الغرام وحلاوته" و"خيلة القلب البشري" و"رائحة متصاعدة من طاقة زهور المشاعر المضمومة"(5).‏
إن مؤلفات جبران المبكرة، قصصه القصيرة ومقطعاته النثرية وقصته الطويلة "الأجنحة المتكسرة"، مشحونة بالعاطفة ومشغولة بالبحث عن انسجام العالم وتناغمه اللذين يجب أن ينبعثا من الجمال والحب المسفوحين في الطبيعة. إن هذه المؤلفات تغص بالحزن لمصير البشر "المذلين المهانين"، ولكن ترن، في الوقت نفسه، في قصصه القصيرة وفي "الأجنحة المتكسرة" نغمات الاحتجاج ضد الرياء في الدين وسلطة رجال الكنيسة وضد الوضع العبودي للمرأة الشرقية التي لا تملك حق اختيار مصيرها. إن إبطال جبران لا يتألمون فقط، بل ينتفضون ضد الظلم والتقاليد البالية ويواصلون نضالهم حتى النهاية، فيحققون سعادتهم أو يموتون في غمرة الصراع. ومع الزمن يتنامى التمرد في أعماق جبران فتحل "العواصف" محل "دمعة وابتسامة"، ويتسع نطاق الاحتجاج فلا يقتصر على بعض عيوب المجتمع، بل يشمل كل مظاهر العبودية السائدة في كل زمان ومكان من بابل القديمة إلى نيويورك المعاصرة. إنه يكره فلسفة البرجوازي المتعيش ويرى العالم المحيط به "غابة الأهوال"(6) التي "تسكنها حيوانات داجنة المظاهر، معطرة الأذناب، مصقولة القرون، لا تقضي شرائعها ببقاء الأنسب بل بدوام الأروغ والأحيل. ولا تؤول تقاليدها إلى الأفضل والأقوى بل إلى الأخبث والأكذب. أما ملوكها فهم مخاليق عجيبة لهم مناقر النسور وبراثن الضبع وألسنة العقارب ونقيق الضفادع"(7)، ويرى نفسه، وهو الشاعر الذي حمل إلى الناس ثمرات روحه، غريباً وحيداً منبوذاً.‏
يكتسب تمرد جبران طابعاً نيتشويا، فيقف الشاعر –الإنسان المتفوق المدرك لأسرار الوجود والعدم- في مواجهة الناس الذين يبدون أحياء "وهم أموات منذ الولادة"(8)، يحتقرهم ويسخر منهم ويظل متعالياً عظيماً في وحدته. إن ملاحقة أجيال الناس "عبيد الحياة" تتعبه، ويمل "النظر إلى مواكب الشعوب والأمم المستعبدة"(9) فيجلس "وحيداً في وادي الأشباح حيث تختبئ خيالات الأزمنة الغابرة وتربض أرواح الأزمنة الآتية"(10)، وهناك يتعرف الحرية وأبناءها وهم في تصوره "واحد مات مصلوباً" (المسيح) "وواحد مات مجنوناً" (نيتشة) "وواحد لم يولد بعد"(11). نحن لا نعتقد أن جبران يعني بذلك "الذي لم يولد بعد" نفسه ولكننا نكاد نجزم بأنه رأى نفسه بشيراً لميلاده، إذ من غير المصادف أن يطلق اسم "السابق" على مجموعته التي نشرها عام 1920 ورأى فيها أن من واجبه ألا يقصر دعوته على العرب، وأن عليه أن يبشر العالم كله بميلاد "ابن الحرية" القادم.‏
هكذا انتقل جبران إلى الكتابة باللغة الإنكليزية فنشر بها عدداً من المجموعات من الشعر المنشور والخواطر لفتت نظر أبناء وطنه الثاني (أمريكا) وضمنت له مكانة مرموقة في تاريخ الأدب الأمريكي، كما حظيت باهتمام بالغ في وطنه الأم.‏
لقد كانت علاقة جبران بوطنه البعيد متناقضة، غير أنها ظلت، في تناقضها، تحتفظ بجوهرها الحقيقي ألا وهو حب لبنان حباً يصل إلى حد العبادة. إنه يعبر تارة عن كرهه العميق للتقاليد العفنة في وطنه ولمواطنيه الذين ألقوا العبودية فيتصورهم ".. مستنقعات خبيثة تدب الحشرات في أعماقها وتتلوى الأفاعي على جنباتها"(12)، ويعبر تارة أخرى عن حزنه العميق لمصيرهم المؤلم. إن مقطوعته النثرية "مات أهلي" التي كتبها إبان محنة لبنان القاسية في أعوام الحرب العالمية الأولى حين تعرضت المقاطعات العربية في الإمبراطورية العثمانية للنهب وعانت من المجاعة الرهيبة، منحوتة بأرق المشاعر وأصدقها. إنها مقطوعة تخلو من رنة الاحتقار والإدانة وتنضح بإحساس الشاعر بمسؤوليته أمام شعبه وتعاطفه معه وخجله من كونه بعيداً عن وطنه ساعة المحنة وعاجزاً عن تقديم يد العون والمساعدة له. يقول جبران:‏
مات أهلي على الصليب.‏
ماتوا وأكفهم ممدودة نحو الشرق والغرب وعيونهم محدقة إلى سواد الفضاء.‏
ماتوا صامتين لأن آذان البشرية قد أغلقت دون صراخهم.‏
ماتوا لأنهم لم يحبوا أعداءهم كالجبناء، ولم يكرهوا محبيهم كالجاحدين.‏
ماتوا لأنهم لم يكونوا مجرمين.‏
ماتوا لأنهم لم يظلموا الظالمين.‏
ماتوا لأنهم كانوا مسالمين.‏
ماتوا جوعاً في الأرض التي تدر لبناً وعسلاً.‏
ماتوا لأن الثعبان الجهنمي قد التهم كل ما في حقولهم من المواشي وما في أهرائهم من الأقوات.‏
ماتوا لأن الأفاعي أبناء الأفاعي قد نفثوا سمومهم في الفضاء الذي كانت تلمؤه أنفاس الأرز وعطور الورد والياسمين(13).‏
غير أن حب جبران العميق لوطنه الأم لم يصرفه عن النظرة الإنسانية الشاملة، وقد جاء أشهر كتبه باللغة الإنكليزية "النبي" (1923) ثمرة تأملاته وأفكاره التي شملت مصائر الإنسانية كلها. إن جبران في هذا الكتاب شاعر وواعظ في وقت واحد، فبطله "المصطفى" يخرج إلى الناس ليعلمهم ديناً يخالف ما ألفه المجتمع ويقربهم من أسرار الوجود الخفية. ومواعظ "المصطفى" تشمل جميع جوانب حياة البشر المادية والروحية والأخلاقية، وترتسم في هذه المواعظ الصورة النهائية لمثل جبران الأعلى، إنه الحياة الممتلئة عملاً وفكراً والمتحررة تماماً من قيود التقاليد والقوانين. ولكن التحرر الذي يتحدث عنه جبران في كتابه ليس تحرر "الإنسان المتفوق" الذي يبيح لنفسه كل شيء، بل هو تحرر الروح والجسد من أجل أن يعمل العقل والعواطف بفعالية وانسجام، ومن أجل أن يجد الإنسان في الواقع ما فطر عليه من الخير.‏
لقد عرف جبران، في بحثه عن انسجام العالم، التمرد على المجتمع، والتعاطف مع الفقراء، واحتقارهم، وغنى نشيد الإنسان العظيم الذي يضم بين جوانحه روحاً متوهجة أبداً، ونشيد الحب الذي يمكن الناس من اكتشاف أسرار قلوبهم ليصبحوا من خلال ذلك جزءاً من قلب الحياة نفسها. وهو يرى الآن، في كتابه النبي، أن الجمال ليس في الطبيعة فقط، بل هو في الإنسان الملتحم بها أيضاً، ويرى أن "الجمال هو الحياة بعينها سافرة عن وجهها الظاهر النقي.‏
ولكن أنتم الحياة وأنتم الحجاب.‏
والجمال هو الأبدية تنظر إلى ذاتها في مرآة.‏
ولكن أنتم الأبدية وأنتم المرآة(14).‏
لقد تبوأ "جبران خليل جبران" عن جدارة مركز الصدارة في أدبنا العربي المهاجر وذاع أدبه وفكره في طول الوطن العربي وعرضه. وعلى الرغم من مرور ستين عاماً على وفاته ما زال اسمه حياً بيننا وما زال أدبه المكتوب بدم القلب يبعث أنبل المشاعر وأصدقها في قلوب أجيالنا الفنية.‏
إن إصدار كتب جبران باللغتين العربية والإنكليزية يتنامى في العقود الأخيرة من هذا القرن (كأمثلة على ذلك نذكر تعريب أعماله المكتوبة باللغة الإنكليزية في السلسلة الأدبية المعروفة) من روائع "جبران خليل جبران" التي صدرت في القاهرة عام 1950 وقام بتعريبها والتقديم لها ثروت عكاشة، وضمت أعماله "النبي" و"حديقة النبي" و"رمل وزبد" و"أرباب الأرض"، ونذكر كذلك ترجمة الشاعر المرموق "يوسف الخال" لكتاب جبران "النبي" التي صدرت في بيروت عام 1968، وكذلك صدور المجموعة الكاملة لمؤلفات "جبران خليل جبران" عام 1970 عن دار صادر في بيروت وقد قام بالتقديم لها وأشرف على تنسيقها صديق جبران ورفيقه "ميخائيل نعيمة" ويتنامى كذلك عدد الدراسات التي تلقي الضوء على جوانب مختلفة من حياة جبران وإبداعه (نذكر منها على سبيل المثال، دراسة "د.يمنى العيد" أدب جبران خليل جبران بين الوعي والواقع" المنشورة في بيروت مجلة "الطريق"، العدد 6 لعام 1970، من الصفحة 101 إلى الصفحة 112، ودراسة نديم ناعمة "جبران في عالمه الفكري" المنشورة في بيروت، مجلة الآداب، العدد 10 لعام 1972 من الصفحة 18 إلى الصفحة 21، والعدد 11 لعام 1972 من الصفحة 34 إلى الصفحة 37، ودراسة محمد علي الخطيب "صورة واحدة لثورة جبران" المنشورة في بيروت مجلة "الطريق"، العدد 6 لعام 1972 من الصفحة 122 إلى الصفحة 128) وكل ذلك يؤكد ما ذهبنا إليه أعلاه، ويجعلنا نقول بثقة إن "جبران خليل جبران" واحد من أكبر الأدباء العرب في العصر الحديث، وأكثرهم أصالة. والسر في رسوخ الاهتمام بجبران يكمن في إبداعات هذا الأديب نفسها، فهي تحمل طابع موهبة فنية فذة وتنضح إخلاصاً وصدقاً ورغبة وشجاعة في معالجة المسائل الكبرى التي شغلت وما زالت تشغل بال الإنسانية حتى يومنا هذا.‏
إن إبداعات جبران ظاهرة متميزة تشغل مكانة خاصة في تاريخ الأدب العربي الحديث، إنها إبداعات تتسم بتعدد اهتماماتها والتآلف العضوي فيها بين البدايات الغربية والبدايات العربية الشرقية، وتنوع محتوياتها الفكرية وصيغها وألوانها، وازدواجية اللغة عند كاتبها. ودراسة هذه السمات الأساسية في أدب جبران تمكننا من تحديد الخط الذي يحكم تطور المراحل المختلفة من حياة مبدعة. غير أن هذه المسألة، على أهميتها، لم تنل من الدراسة حقها الكافي، لا في أعمال الباحثين العرب ولا في أعمال المستشرقين. فالمستشرقون اكتفوا في مقالاتهم وبحوثهم عن جبران بتقديم تصور عام عن إبداعه (نذكر على سبيل المثال كتاب بربارة يونغ "هذا الرجل من لبنان" الصادر باللغة الإنكليزية في نيويورك عام 1946، والذي يحمل طابع المذكرات إذ تضمن عدداً من الوقائع الطريفة في حياة جبران. ولكن التقويم المغرق في الذاتية وافتقار الكتاب إلى الدقة العلمية يجعل من الصعب على الباحث اعتماده مرجعاً. كذلك نذكر ما كتبه "كراتشكوفسكي" في الجزء الثالث من مؤلفاته المختارة المنشورة في لينينغراد وموسكو عام 1956 في الصفحات 347-351 عن جبران، وما جاء في مقالته "الأدب العربي في أمريكا" المنشورة في مجلة جامعة لينينغراد، الإصدار الأول، عام 1928، من الصفحة 1 إلى الصفحة 27). أما الباحثون العرب فقد حاولوا تقسيم مسيرة جبران الأدبية إلى مراحل، فالدكتورة "يمنى العيد" التي سبق أن أشرنا إلى بحثها "أدب جبران خليل جبران بين الوعي والواقع"، ركزت اهتمامها على موقف جبران من المواقع، فقسمت بالاستناد إلى ذلك أدبه إلى ثلاث مراحل:‏
1-إضاءة حقائق الواقع والاحتجاج عليها.‏
2-التخلي عن الاحتجاج.‏
3-البحث عن ملجأ في اليوتوبيا.‏
واعتمد الباحث المصري "عدنان السكيك" في بحثه "النزعة الإنسانية عند جبران"، المنشور في القاهرة عام 1970، حياة الأديب أساساً في تصنيف أدبه، وبالاستناد إلى ذلك قسم إبداع جبران إلى المراحل التالية:‏
1-مرحلة أولى (1905-1914) وتضم أعمال جبران "الموسيقا" 1905 و"عرائس المروج" 1906 و"الأزواج المتمردة" 1908 و"الأجنحة المتكسرة" 1912 و"دمعة وابتسامة" 1914، وكلها أعمال كتبت بالعربية.‏
2-مرحلة وسطى (1914-1920) وتضم: "المجنون" 1918 و"المواكب" 1919 و"السابق" و"العواصف" 1920 وهي أعمال، ما عدا "المواكب" مكتوبة بالعربية والإنكليزية.‏
3-مرحلة ختامية (1920-1931) وتضم: "النبي" 1923 و"رمل وزبد" 1926 و"يسوع ابن الإنسان" 1928 و"أرباب الأرض" و"حديقة النبي" (طبعتا عام 1932 بعد موت جبران) وهي أعمال مكتوبة بالإنكليزية.‏
وثمة أخيراً التصنيف الذي وضعه ميخائيل نعيمة في مقدمته للمجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران باللغة العربية، حيث يصنف نعيمة مؤلفات جبران على أساس اللغة التي كتبت بها، فيجعل إبداعه في مرحلتين، الأولى منهما هي مرحلة الكتابة العربية (من عام 1905 إلى عام 1918) والثانية هي مرحلة الكتابة بالإنكليزية (من عام 1918 إلى عام 1921) من دون أن يحاول تفسير أسباب انتقال جبران من مرحلة إبداعية إلى مرحلة إبداعية أخرى.‏
ليس ثمة ما يدعو إلى معارضة المبدأ الذي بنى عليه ميخائيل نعيمة تصنيفه، ولكن لا بد من أن نضع في أساسه التطورات والتغيرات التي طرأت على ما حدده جبران لنفسه من مهمات إبداعية في مراحل حياته المختلفة. إن اتباع مبدأ كهذا يمكننا من تفسير أسباب انتقال جبران من لغة إلى أخرى، ويسمح لنا بإدراك العلاقة بين المرحلتين اللتين أشار إليهما نعيمة، وبالاستناد إلى المبدأ المذكور يمكن تقسيم إبداع جبران إلى مرحلتين:‏
1-مرحلة الكتابة باللغة العربية (1905-1919) وتضم: "الموسيقا" 1905 و"عرائس المروج" 1906 و"الأزواج المتمردة" 1908 و"الأجنحة المتكسرة" 1912 و"دمعة وابتسامة" المكتوبة بين عامي 1903 و1908 والمنشورة في عام 1914 و"العواصف" المكتوبة بين عامي 1914 و1918 والمنشورة في عام 1920 و"المواكب" 1919.‏
2-مرحلة الكتابة باللغة الإنكليزية (1919-1931) وتضم: "المجنون" 1918 و"السابق" 1920 و"النبي" 1923 و"رمل وزبد" 1926 و"يسوع ابن الإنسان" 1928 و"آلهة الأرض" و"حدائق النبي" المنشورتان عام 1932 بعد موت جبران.‏
يبين التصنيف السابق لأعمال جبران أن مرحلة الكتابة باللغة العربية تشغل حيزاً يعادل نصف حياته الإبداعية ويزيد قليلاً. ومن الخطأ أن نفترض أن كل ما أبدعه في هذه المرحلة من طبيعة واحدة، لذا فإننا نقترح من أجل تسهيل عمل دراسي إبداع جبران تقسيم مرحلة الكتابة باللغة العربية إلى فترتين، تقسم الأولى منهما أعماله المبكرة المكتوبة بين عامي 1905 و1914، وفي معظمها يستقي جبران الموضوعات والمواقف من تجاربه الشخصية، ولعل هذا ما يجعل ميخائيل نعيمة يقوم أحد الأعمال الهامة فيها بقوله: "وأنت إذ تطالع" "دمعة وابتسامة" تكاد تطالع فيه تاريخ قلب جبران وفكره وتاريخ حياته حتى عام 1908"(15). إن جبران في هذه الفترة لا يمارس التفكير المجرد في معنى الوجود الإنساني بل يركز اهتمامه على إنسان محدد يصور مشاعره وأفكاره، والمؤلفات التي كتبها فيها تتسم بالعاطفية الشديدة والحماس الرومانتيكي والاحتجاج العنيف ضد الظلم الاجتماعي والاضطهاد الديني والتقاليد البالية. لقد تطلبت مناقشة هذه القضايا المثيرة الملتصقة التصاقاً شديداً بحياة المجتمع العربي في مطلع القرن العشرين من الكاتب بسالة وطنية عظيمة وحسا إنسانياً سامياً مكنا جبران من الصمود في وجه خصومه الذين اتهموه بخرق القواعد الأخلاقية وبالفوضوية والمروق عن الدين.‏
إن الموضوعية الأساسية في أعمال جبران المبكرة وطبيعتها المتمردة دفعتا جبران إلى البحث عن صيغ أدبية جديدة غير تقليدية وإلى وسائل تصوير لغوية غير مألوفة في الأدب العربي. ومما لا شك فيه أن اطلاعه على الآداب الغربية، ولا سيما على إبداعات ممثلي الاتجاه الرومانتيكي فيها، لعب دوراً في ميله إلى كتابة الشعر المنثور والمقطعات. ونحن لا نعتقد أننا نجانب الصواب إذا قلنا أن العوامل التي أشرنا إليها أعلاه هي السبب الحاسم في رفض جبران لقوانين الأدب التقليدي والتفاته إلى موضوعات وصور فنية تتسم بالشعرية الرومانيكية الرافضة لكل معطى موجود وجوداً حقيقياً في العالم المادي والعالم الروحي.‏
ونعتقد أننا لا نجانب الصواب أيضاً، إذا ربطنا بأعمال جبران المبكرة ظهور الرومانتيكية تياراً جديداً في الأدب العربي الحديث. لقد تجلت الرومانتيكية بصورتها المكتملة في مجموعة قصص جبران "الأرواح المتمردة" وفي قصته الطويلة "الأجنحة المتكسرة" وفي أشعاره المنشورة في مجموعته "دمعة وابتسامة" حيث يعالج جبران بروح الرومانتيكية موضوع البحث عن سبل خلاص الناس من المصائب والآلام وعذابات الاضطهاد.‏
أما الفترة الثانية، فتضم الأعمال التي كتبها جبران بالعربية بين عامي 1914 و1919، وهي أعمال احتفظت إلى حد كبير بالطابع الرومانتيكي ولكنها تصور الحياة من موقع جديد يتسم بفعالية أكبر وعمق أكبر في فهمهما وتفسيرها، ويبدو الكاتب في هذه الأعمال أكثر تقديراً للقوة والحزم على الرغم من احتفاظه بالروح الحالمة المفرطة في الغنائية. وتبقى الأشعار المنثورة اللون الأثير لدى جبران غير أن طريقته في تصوير الموضوعات القديمة تتبدل، فيحل محل الأبطال العاطفيين بطل جديد وحيد وقوي يخوض الصراع ضد المصير ويسيطر عليه. أما السبب في هذا التبدل فهو وقوع جبران في هذه الفترة تحت تأثير "فريدريك نيتشه" الذي عد كتابه "هكذا تكلم زاردشت" من أعمل ما أبدعه العقل البشري.‏
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن ما أبدعه جبران في مرحلة الكتابة باللغة العربية لا يمكننا من تتبع عملية استعداده للانتقال إلى الكتابة بالإنكليزية فحسب، بل يمكننا أيضاً من تتبع عملية نشوء موضوعات كتبه في المرحلة الجديدة وبدايات تطورها، ونحن نعني بذلك موضوع "النبي" وطموح أديبنا ليكون من خلال موهبته الإبداعية واعظاً روحياً.‏
إن موضوع "الشاعر" ورسالته السامية في الحياة واحد من أهم الموضوعات عند الرومانتيكين الذين عدوا الشاعر قديساً ونبياً وأكدوا في كتاباتهم أن الشاعر والقديس كانا في البدء شيئاً واحداً ولكن تعاقب الأزمان فصل أحدهما عن الآخر، غير أن الشاعر الحقيقي بقي قديساً، كما أن القديس الحقيقي بقي شاعراً، وقد ظهر موضوع الشاعر "النبي" الملك الذي بعثته الآلهة ليعلم الناس "الإلهيات".‏
لأول مرة عند جبران في قصيدته النثرية "الشاعر" في مجموعته "دمعة وابتسامة" حيث يصوره بطلاً وحيداً لا يشعر الناس بالحاجة إلى معرفته وحكمته ولا يخلصه من عذابه وآلامه إلا الموت "تعالي أيتها المنية الجميلة فقد اشتاقتك نفسي.. اقتربي وحلي قيود المادة فقد تعبت من جرها.. تعالي إليَّ أيتها المنية العذبة وخذيني فأولاد بجدتي لا يحتاجون إليَّ"(16)، ثم تحولت صورة هذا البطل تحت التأثير الشديد نيتشه. ففي قصة جبران "يوسف فخري" من مجموعته "العواصف" يختار الشاعر الإنسان القوي المتعالي الوحدة بإرادته عاداً إياها الوسيلة الوحيدة التي توقظ في الناس العقل والروح..‏
ويظهر في عام 1918 أول كتب جبران المكتوبة باللغة الإنكليزية "المجنون" وفيه يواصل الكاتب تطوير موضوع وحدانية الشاعر الذي يسميه فيها "مجنوناً" حصل على حريته في وحدته. هكذا وصل جبران بالتدريج إلى موضوع كتابه الأساسي "النبي 1923" الذي طرح فيه آراءه وأفكاره حول قضايا الإنسان الخالدة.‏
بعد عام 1920 عام انعطاف أساسي في إبداع جبران خليل جبران، ففيه ينتقل نهائياً إلى الكتابة باللغة الإنكليزية. إن الانتقال من اللغة العربية إلى اللغة الإنكليزية كان عند جبران نتيجة استعداد نفسي وإبداعي للقيام بدور النبي المعلم الساعي إلى تعليم القارئ الغربي روحانية الشرق بعد إزالة الحاجز اللغوي بينه وبين ذلك القارئ، وكان، في الوقت نفسه، مرحلة جديدة في تطور الوعي الإبداعي عنده، وفي إدراكه لعالمية رسالته الفكرية وشمولها، ولعله من المناسب هنا أن نشير إلى ظاهرة طريفة من ظواهر التناغم بين ممثلي الرومانتيكية في الغرب ورمانتيّنية أديبنا الفذ، فمن المعروف أن الشرق شغل مكانة خاصة في إبداع الشاعر الأمريكي "إيميرسون"، فكان، بالنسبة إليه، يوتوبياً رومانتيكية ومصدراً للحكمة يقف موقف النقيض من أمريكا البرجوازية التي تقيس كل شيء بمقياس المصلحة المادية. وقد عالج جبران، الذي لا نشك باطلاعه الجيد على أعمال أيميرسون، هذا الموضوع نفسه في كتاباته باللغة الإنكليزية، ولكن أي قارئ منصف سيرى أن أعمال جبران تمتاز بمحتوى فلسفي أكثر غنى وعمقاً.‏
ولعله من المناسب أيضاً ونحن نتحدث عن أعمال جبران في مرحلة الكتابة باللغة الإنكليزية أن نشير إلى أنها امتازت من كتاباته باللغة العربية بصورها الفنية التجريدية ورمزيتها التي تختلف عن رمزية أعمال المرحلة الأولى. ويكفي للتدليل على ذلك أن يقارن القارئ بين مجموعة "دمعة وابتسامة" من المرحلة الأولى و"آلهة الأرض" من المرحلة الثانية لتتجلى له صحة ما نقول تماماً.‏
إن قلق المتمرد وعصيانه ورفضه للتقاليد، وكل ذلك مما تميزت به أعمال المرحلة الأولى، ينزاح في المرحلة الثانية ليفسح المجال لحكمة الفيلسوف وهدوئه العميق، فيتخلى جبران في هذه المرحلة تماماً عن أفكار نيتشة، ويدعو بطل أعماله، الذي يقوم بدور المعلم، الناس إلى الخير والحق والجمال، ويعلمهم أن ظلام الليل يخفي في طياته فجراً جديداً. ويتغير موقف الكاتب من الناس فيحل حبه لهم وفهمه لإنسانيتهم محل ما كان يبديه نحوهم من كره وما يظهره تجاههم من استعلاء، إنه يرى الآن أن الحكمة والمعرفة هما وحدهما اللتان تعطيان الإنسان الحق في أن يمتلك الحرية، وتملآن قلبه بالمحبة.‏
قد لا ينطوي هذا التوصيف والتصنيف لأعمال جبران خليل جبران على جديد كان مجهولاً من قبل، ولكنه يظهر بالتأكيد الترابط العضوي بين أعماله في مرحلتي إبداعه المشار إليهما، ويقدم تفسيراً مقبولاً لأسباب انتقاله من الكتابة باللغة العربية إلى الكتابة باللغة الإنكليزية. إن أدب جبران المكتوب باللغة الإنكليزية لا يعني بحال من الأحوال انتقال جبران من موقع إلى موقع، من أدب قومي إلى أدب قومي آخر، بل هو رسالة شاعر حكيم نبي لبناني عربي شرقي بلغ حد النضج إلى العالم الجديد، تحمل أسمى روحانيات الشرق وأنبل مشاعره الإنسانية التي كونها عبر تاريخه المديد العريق، وتحمل حكمة الشرق العظيم إلى العالم المغرق في ماديته المفتقر إلى المحبة الإنسانية الشاملة.‏
لقد مد جبران، بانتقاله إلى الكتابة باللغة الإنكليزية، جسراً من المحبة، وفتح ميداناً للتفاهم والتآلف بين الناطقين بها وبين الشرق العربي الذي مثلته حفنة العنادل المهاجرة التي كان جيران أبرزها حضوراً وأعذبها شدواً. ولأن ما كتبه جبران بالإنكليزية كان غنياً بروح الوطن الأم، فقد استقبل في وطنه مثلما استقبلت كتابات أديبنا بالعربية، ولأن ما كتبه جبران بالإنكليزية كان غنياً بالمحبة الإنسانية الشاملة، فقد استقبل في وطنه الثاني أمريكا كما استقبل في وطنه الأم لبنان. وكما ألهم جبران ملايين العقول في وطنه العربي الحكمة والمحبة وعشق الحرية، ألهم ملايين العقول على امتداد العالم واتساعه هذه المثل السامية. يقول جبران في كتاب "النبي":‏
"الحق أقول لكم أن الحياة تكون بالحقيقة ظلمة حالكة إذا لم ترافقها الحركة والحركة تكون عمياء لا بركة فيها إن لم ترافقها المعرفة، والمعرفة تكون سقيمة إن لم يرافقها العمل، والعمل يكون باطلاً وبلا ثمر إن لم يقترن بالمحبة"(17).‏
جامعة حلب‏
***‏
الهوامش:‏
(1)-المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران العربية. دار صادر، بيروت 1970 ص487-488.‏
(2)-انظر، المصدر السابق، ص259.‏
(3)-المصدر السابق، ص40.‏
(4)-المصدر السابق، ص33.‏
(5)-المصدر السابق، ص43.‏
(6)-انظر المصدر السابق، ص376.‏
(7)-المصدر السابق، الصفحة نفسها.‏
(8)-المصدر السابق، ص368.‏
(9)-المصدر السابق، ص 374.‏
(10)-المصدر السابق، الصفحة نفسها.‏
(11)-المصدر السابق، الصفحة نفسها.‏
(12)-المصدر السابق، ص392.‏
(13)-المصدر السابق، ص430.‏
(14)-المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران المعربة عن الإنكليزية، دار صادر ودار بيروت 1964، ص132.‏
(15)-المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران العربية. ص19.‏
(16)-المصدر السابق، ص252.‏
(17)-المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران، المعربة عن الإنكليزية، دار صادر بيروت. 1964، ص:97.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://www.nhd1.com/vb/imgcache/20190.imgcache.gif
المدير العام
المدير العام
المدير العام
المدير العام


ذكر عدد المساهمات : 1237
تقييم الأعضاء : 1
تاريخ التسجيل : 03/01/2011
الموقع : https://startimes17.yoo7.com

 رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي    رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي Icon_minitimeالثلاثاء مارس 15 2011, 16:39

.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://startimes17.ahlamoontada.com
magd1000
عضو نشيط
عضو نشيط
magd1000


الأوسمة : 1
ذكر عدد المساهمات : 147
تقييم الأعضاء : 0
تاريخ التسجيل : 04/05/2011
العمر : 39
الموقع : http://magd1000.own0.com/

 رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي    رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي Icon_minitimeالإثنين مايو 09 2011, 04:59

<p class="MsoNormal" dir="RTL" style="mso-pagination:none;mso-layout-grid-align:
none;text-autospace:none">اهلا بحضرتك

<p class="MsoNormal" dir="RTL" style="mso-pagination:none;mso-layout-grid-align:
none;text-autospace:none">موضوع جميل بارك الله فيك لما قدمت يداك

<p class="MsoNormal" dir="RTL" style="mso-pagination:none;mso-layout-grid-align:
none;text-autospace:none">تحياتى

<p class="MsoNormal" dir="RTL" style="mso-pagination:none;mso-layout-grid-align:
none;text-autospace:none">مع خالص شكرى وتمنياتى بالتوفيق

<p class="MsoNormal" dir="RTL" style="mso-pagination:none;mso-layout-grid-align:
none;text-autospace:none">

<p class="MsoNormal" dir="RTL" style="mso-pagination:none;mso-layout-grid-align:
none;text-autospace:none"> رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي Item112151
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://magd1000.own0.com/
المدير العام
المدير العام
المدير العام
المدير العام


ذكر عدد المساهمات : 1237
تقييم الأعضاء : 1
تاريخ التسجيل : 03/01/2011
الموقع : https://startimes17.yoo7.com

 رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي    رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي Icon_minitimeالثلاثاء يونيو 21 2011, 14:10

 رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي 2xamga4tgkjt
 رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي 14691280472023863880
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://startimes17.ahlamoontada.com
اميرة
مشرفة
مشرفة
اميرة


انثى عدد المساهمات : 185
تقييم الأعضاء : 1
تاريخ التسجيل : 06/04/2011
العمر : 37
الموقع : جزائرية

 رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي    رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي Icon_minitimeالخميس يوليو 07 2011, 16:56

بارك الله فيك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  البنفسج الطموح للكاتب جبران خليل جبران
» رحلة العمر .. رحلة إلى الخالق عزوجل
» ..اغنية محمد فؤاد ابن بلد mp3 ، ريم.اغنية محمد فؤاد ابن بلد 2010.
» رحلة في تاريخ القدس
»  محمد فؤاد ينصف الجزائر بعد أكثر من سنة

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
 :: أدب وشعر :: أدباء وشعراء ومطبوعات-
انتقل الى:  
 رحلة في أدب جبران ـــ د.فؤاد مرعي 837707735

ملاحظة: كل مايكتب في هذا المنتدى لا يعبر عن رأي إدارة الموقع أو الأعضاء بل يعبر عن رأي كاتبه فقط

https://i.servimg.com/u/f46/12/36/04/46/anai_c11.gif