فتح الرحيم الملك العلام
في
علم العقائد والتوحيد
والأخلاق والأحكام المستنبطة من القرآن
الرحمن، الرحيم، البَرُّ
الكريم، الجواد، الوهاب، الرؤوف
هذه الأسماء الكريمة متقارب معناها، وكلُّها تدل على أنَّه موصوف بكمال الرحمة وسعة البر والإحسان، وكثرة المواهب والحنان والرأفة.
فجميع ما فيه العالم العلوي والسفلي من حصول المنافع والمحاب والمسار والخيرات، فإنَّ ذلك منه ومن رحمته وجوده وكرمه وفضله، كما أنَّ ما صرف عنهم من المكاره والنقم والمخاوف والأخطار والمضار، فإنَّها من رحمته وبره، فإنَّه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يدفع السيئات إلا هو.
ورحمته تعالى سبقت غضبه وغلبته، وظهرت في خلقه ظهوراً لا ينكر، حتى ملأت أقطار السموات والأرض، وامتلأت منها القلوب حتى حنَّت المخلوقات بعضُها على بعض بهذه الرحمة التي نشرها عليهم وأودعها في قلوبهم، وحتى حنَّت البهائم التي لا ترجو نفعاً ولا عاقبة ولا جزاء على أولادها، وشوهد من رأفتها بهم وشفقتها العظيمة ما يشهد بعناية باريها ورحمته الواسعة، وعمَّت مواهبه أهل السموات والأرض، ويسَّر لهم المنافع والمعايش والأرزاق وربطها بأسبابٍ ميسَّرةٍ وطرقٍ مسهلةٍ، فما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها.
وعلم تعالى من مصالحهم ما لا يعلمون، وقدَّر لهم منها ما لا يريدون، وما لا يقدرون، وربما أجرى عليهم مكاره توصلهم إلى ما يحبون،
بل رحمهم بالمصائب والآلام، فجعل الآلام كلَّها خيراً للمؤمن الذي يقوم بوظيفة الصبر. «عجباً لأمر المؤمن إنَّ أمره كلَّه خير، إن أصابته
سرَّاءُ شكر فكان خيراً لـه، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر فكان خيراً لـه، وليس
ذلك إلا للمؤمن ([1])، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
وكذلك ظهرت رحمته في أمره وشرعه ظهوراً تشهده البصائر والأبصار، ويعترف به أولوا الألباب. فشَرْعه نور ورحمة وهداية، وقد شرعه محتوياً على الرحمة، وموصلاً إلى أجلِّ رحمة وكرامة وسعادة وفلاح. وشرع فيه من التسهيلاتِ والتيسيراتِ ونفيِ الحرج والمشقات ما يدل أكبر دلالة على سعة رحمته وجوده وكرمه، ومناهيه كلُّها رحمة لأنَّها لحفظ أديان العباد، وحفظ عقولهم وأعراضهم وأبدانهم وأخلاقهم وأموالهم من الشرور والأضرار.
فكلُّ النواهي تعود إلى هذه الأمور، وأيضاً الأوامر سهَّلها وأعان عليها بأسبابٍ شرعيةٍ وأسبابٍ قدريةٍ، وذلك من تمام رحمته، كما أنَّ النواهي جعل عليها من العوائق والموانع ما يحجز العباد عن مواقعتها إلا من أبى وشرد، ولم يكن فيه خير بالكليَّة. وشرع أيضاً من الروادع والزواجر والحدود ما يمنع العباد ويحجزهم عنها، ويقلِّل من الشرور شيئاً كثيراً.
وبالجملة فشرعه وأمره نزل بالرحمة، واشتمل على الرحمة، وأوصل إلى الرحمة الأبدية والسعادة السرمدية.
--------------------------------------------------------------------------------
[1]- حديث رواه مسلم في صحيحه (رقم: 2999).
الأعداد السابقة
فتح الرحيم الملك العلام العدد (1)
فتح الرحيم الملك العلام العدد (2)
فتح الرحيم الملك العلام العدد (3)
فتح الرحيم الملك العلام العدد (4)
فتح الرحيم الملك العلام العدد (5)