"تعالوا نحلم ببكرة" محاولة لإحياء فن الأوبريت .

تعالوا نحلم ببكرة" محاولة لإحياء فن الأوبريت
كتب: محمــد بهجــت




في الوقت الذي توقفت فيه كل المسارح عن تقديم عروض جديدة أو حتي إعادة عروضها القديمة‏,‏ قدمت الهيئة العامة لقصور الثقافة صورة غنائية تقترب من شكل الأوبريت حملت عنوان تعالوا نحلم ببكرة علي المسرح المكشوف بدار الأوبرا المصرية.

وقدم العمل مجموعة من الأطفال المصريين والسوريين والفلسطينيين جمعتهم الرغبة في تعريف الجمهور بأحداث الثورات العربية كما رأوها وشاركوا فيها, ونفس هؤلاء الأطفال هم الذين قاموا بالرسم في الشوارع والأرصفة من خلال مشروع أتوبيس الفن الجميل التي تشرف عليه الأستاذة ماجدة صقر.. تروي الصورة الغنائية أسباب قيام ثورات الربيع العربي بداية من تونس ثم مصر وليبيا واليمن وسوريا التي ما زالت تناضل من أجل الحرية والكرامة وشهدت أراضيها مذابح متكررة للثوار.. وعلي الرغم من مباشرة التناول الفني والميل للخطابة فإن الجهد المبذول من الأطفال ومن صناع الصورة الغنائية يستحق التحية والتقدير ومنحهم الفرصة لتقديم العمل أكثر من ليلة والتجوال به في مختلف المحافظات, فهم قد إختاروا أصعب أشكال الفن المسرحي وأعقدها وهو فن الأوبريت الذي لم ينجح في تقديمه إلا عدد قليل جدا من الشعراء والملحنين علي مدي تاريخ المسرح المصري بوجه عام ـ ولعل أبرز صناع فن الأوبريت هم الشاعر الكبير بيرم التونسي صاحب أوبريت شهرزاد من ألحان فنان الشعب سيد درويش والشاعر الكبير بديع خيري صاحب أوبريت العشرة الطيبة, أيضا الموسيقار سيد درويش ثم الشاعر الكبير صلاح جاهين, مؤلف أوبريت الليلة الكبيرة علي مسرح القاهرة للعرائس والتي صاغ موسيقاها الفنان الكبير سيد مكاوي وأخرجها الفنان صلاح السقا ويحتاج فن الأوبريت إلي مؤلف دراما يكون في الأساس شاعرا, كما يحتاج إلي ملحن فإن حس درامي مميز لأن تلحين الحوار المتعدد بين مجموعة شخوص مسألة صعبة تتطلب فهما عميقا لكل شخصية وأبعادها النفسية ونوعية المفردات التي تستخدمها بمعني أن الملحن يحرص علي أن يعطي لكل شخصية ما يناسبها من جمل موسيقية ثم يجعل هذه الجمل المختلفة والمتناقضة فيما بينها يستسيغها المستمع ببساطة.. وقد شارك في تأليف عرض تعالوا نحلم ببكرة أربعة شعراء هم محمد جمعة عبد الرحيم ومصطفي حسين ومحمد صبحي ـ بالطبع غير المخرج والممثل المعروف محمد صبحي ـ وأخيرا سيد عكاشة صاحب الأغنية الخاتمة ـ وقام بالتلحين محمد زويط, وربما كان لهذا التشارك أثره في أن يختلف المستوي داخل نفس العمل وإن كان حماس الأطفال وإيمانهم بما يقدمونه قد غطي علي كثير من العيوب الفنية للعرض, وفي كل الأحوال يجب أن نلتمس الأعذار للمخرج سامح حمادة ـ وهو صاحب فكرة الأوبريت لأن الأعمال التي تقدم ليوم واحد فقط يشوبها عادة الارتباك ولا يحصل, المشاركون فيها علي فرصة للتجويد وتجنب الأخطاء عبر أكثر من ليلة عرض, ولا يمكن أن نطالب الأطفال الذين يقف معظمهم لأول مرة علي خشبة مسرح أن يكونوا بدرجة عالية من الاحترافية تجعلهم يؤدون أفضل أداء من أول مرة!! إن كبار النجوم من أصحاب الخبرة في أثناء الوقوف علي خشبة المسرح يحتاجون لأسبوع علي الأقل حتي يصلوا إلي ضبط الأداء واكتشاف تفاصيل الشخصية, ومن حق الأطفال الموهوبين أن يأخذوا مثل هذه الفرصة كما أن من حق جمهور الأطفال أن يجد عروضا فنية مع بدء اجازة نهاية العام ـ ليس للأطفال ذنب في مشاكل انتخابات الاعادة أو أنانية البعض الذين يحبون حكم الوطن أكثر مما يحبون الوطن نفسه.. ولعل أجمل ما في عرض تعالوا نحلم ببكرة أن الأطفال يتناولون قصص الثورات في كل بلد عربي بتجرد طفولي لا يذكر فيه اسم لنظام سابق أو نظام لاحق. وإنما تذكر فيه البطولات وتضحيات الشهداء ـ ولعل أجمل مشاهد العرض مشهد التحقيق مع الأطفال في سوريا وهي بالمناسبة الشرارة الأولي لثورة الشعب السوري فقد خرج الأطفال من مدارسهم الابتدائية يهتفون في براءة الشعب يريد اسقاط النظام تقليدا لما يشاهدونه علي شاشات التليفزيون من أحداث الثورتين التونسية والمصرية ـ ولكن العجيب أن مخابرات النظام السوري, الحاكم صعدت الموقف بصورة كاريكاتورية وقبضت علي هؤلاء الأطفال وعذبتهم حتي مات أحدهم اعتقادا منها أن هؤلاء الأطفال يدبرون مؤامرة لقلب نظام الحكم وتحولت لعبة الأطفال ـ بسبب غباء الممارسة السياسية ـ إلي مطلب شعبي وضرورة للحياة ـ ومهما تكن الصورة تبدو قاتمة للبعض سياسيا وفنيا فإن المسرح المصري آخذ في الصعود وسيشهد في السنوات القليلة المقبلة نهضة تفوق نهضة العشرينيات من القرن الماضي بعد ثورة 1919 وأيضا تفوق العصر الذهبي في الستينيات بعد ثورة يوليو ـ إن إيمان الأطفال والشباب بفن المسرح, ونجاح تجارب ورش الإبداع الجماعي في أكثر من مكان علامات علي بداية نهضة فنية جديدة ومرحلة مزدهرة للمسرح الجاد الهادف برغم الاظلام المؤقت لجميع المسارح في مصر.

جريدة الاهرام.