القدس مدينة التعددية الثقافية ستفقد هويتها العربية القدس هذه المدينة الصغيرة في حجمها، عظيمة الشأن الكبيرة في قدرها، فإذا كانت مساحة القدس القديمة التي يحتضنها سور المدينة التاريخي لا تتجاوز الكيلومتر المربع الواحد، الا أن هذه المدينة شهدت أحداثاً جساماً لم تشهدها قارات كبيرة، فقد تعاقب الغزاة عبر التاريخ كل يحاول السيطرة على هذه البقعة الصغيرة حتى قبل نزول الديانات السماوية، فهذه البقعة الصغيرة المساحة تحوي في جنباتها أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، المسجد الأقصى أحد المساجد الثلاثة التي تشد اليها الرحال، منه عرج الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه الى السماوات العليا، وفيها مسجد عمر وعشرات المساجد والمدارس والتكايا والزوايا والأبنية التاريخية، التي كل واحد منها هو سجل تاريخي بحدّ ذاته، وفيها كنيسة القيامة وكنيسة العذراء وعشرات الكنائس والأديرة التاريخية أيضاً.
والدارس لتاريخ المدينة سيجد أن الملك اليبوسي العربي ملكي صادق عندما بناها قبل حوالي ستة آلاف عام قد اختار مكانها بعناية فائقة لتكون عاصمة لدولته، ولتتوراثها الأجيال العربية من بعده كابراً عن كابر، ورغم ما تعرضوا له من غزوات ومذابح ،ومنها المذبحة التي قام بها الفرنجة-الصليبيون-واحتلوا بها المدينة في العام 1099 م حيث ذبحوا سبعين ألفاً من مواطنيها، إلا أن التواجد الفلسطيني العربي لم ينقطع يوماً واحداً عن هذا الديار المقدسة، وهذه المدينة ذات التعددية الثقافية والدينية كانت منبراً حضارياً ثقافياً عبر التاريخ، ولأهميتها عند العرب والمسلمين فإن الخليفة الثاني الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، جاء الى المدينة بنفسه لاستلام مفاتيحها من البطريرك صفرونيوس عند الفتح الاسلامي لها، وليوقع معه العهدة العمرية التي تنظم العلاقة بين مسلمي ومسيحيي هذه الديار، وما أعطاه الخليفة من أمن وأمان وحرية عبادة وحق مواطنة لمسيحيي المدينة كان منهجاً سار عليه المجاهد صلاح الدين الأيوبي عندما حرر المدينة من براثن الفرنجة، فلم يقتلهم ولم يسلبهم أموالهم كما فعلوا هم عند احتلالهم للمدينة، بل أعادهم الى بلدانهم التي أتوا منها، وأعطى فقراءهم دابة يركبونها ومؤونة الطريق،
وهذا دلالة على التسامح العربي الاسلامي حتى مع الأعداء،والذي تحكمه قواعد ربانية تحترم حقوق الانسان، وتحترم حقه في الحياة والتملك،وتحافظ على كرامته.
والمدينة المقدسة التي كانت منبراً حضارياً وثقافياً، ومركز اشعاع حضاري عبر التاريخ تعيش محنة الاحتلال الاسرائيلي الذي أهلك البشر والشجر والحجر، ولم يحترم حتى حرية العبادة لأتباع الديانات الأخرى، فحتى الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين من الأراضي الفلسطينية المحتلة في حزيران 1967 من خارج أبناء القدس، يُمنعون من الوصول الى دور عبادتهم في القدس لآداء صلواتهم في أقدس مقدساتهم، وهي المسجد الأقصى وكنيسة القيامة، والمدينة تتعرض لعملية تهويد يومية ومبرمجة ومخططة، ويتعرض مواطنوها الفلسطينيون الى سياسة تطهير عرقي مبرمج ومدروس أيضاً، فلم يكتف المحتلون بهدم حارات الشرف والمغاربة وحيّ النمامرة في الأيام الأولى لاحتلال المدينة، وطرد سكانها العرب، وبناء حيّ استيطاني يهودي مكانه، بل انهم يحاولون السيطرة على أماكن أخرى في المدينة القديمة، وفي محيطها مثلما يجري الآن في حيّ البستان في سلوان وفي حيّ الشيخ جراح، اضافة الى مصادرة الأراضي الفلسطينية وبناء اثنتي عشرة مستوطنة في القدس الشرقية يقطنها حوالي ربع مليون مستوطن.
واذا كان العرب احتفلوا في العام الماضي2009 بالقدس ( عاصمة الثقافة العربية عام 2009 ) فإن المحتلين الاسرائيلين قد اتخذوا قرارهم بمنع أيّ مظهر احتفالي له علاقة بهذه المناسبة ،وهذا يدل على العمى السياسي للمحتلين الذين لم يكتفوا بالسيطرة العسكرية على المدينة،ومحاصرتهم لها من خلال جدار التوسع الاحتلالي، وعزلها عن محيطها الفلسطيني وامتدادها العربي، بل يحاولون بسط ثقافتهم على المدينة، متجاهلين بذلك وجود أكثر من ربع مليون فلسطيني في المدينة، لهم ثقافتهم العربية الاسلامية وانتماؤهم العربي، ولغتهم العربية وتقاليدهم وتراثهم العربي الاسلامي، وكلها أمور لا يمكن دثرها أو الغاؤها بقرار عسكري أو شرطي، فسور المدينة التاريخي ودور عبادتها وأبنيتها ومواطنوها كلها شواهد على عروبة وأصالة هذه المدينة، وما الاعتداء على دور العبادة والأبنية والتراث التاريخي الا اعتداء على الانسانية جمعاء، فهذه الحضارة الأصيلة القديمة ملك للانسانية جمعاء، ومنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم الثقافية "اليونسكو" تعتبر القدس القديمة مدينة تراثية محمية كشاهد على الحضارة الانسانية.
وفي كل الأحوال فإن تاريخ المدينة المقدسة الذي يشهد بعراقتها الثقافية لا يحتاج الى قرار من وزراء الثقافة العربية لتكون عاصمة الثقافة العربية في عام 2009 تماماً مثلما أن عسف الاحتلال وظلمه لا يغير من حقيقة المدينة شيئاً، لكن المحزن ان الحكومات العربية والجامعة العربية لم تستغل تلك المناسبة لاعادة طرح قضية القدس على المحافل الدولية، وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي لاتخاذ القرارات المناسبة والملزمة لكنس الاحتلال من هذه المدينة واعادتها الى وضعها الطبيعي كمدينة عربية اسلامية، وكعاصمة سياسية وثقافية ودينية وتاريخية وحضارية وعلمية للشعب الفلسطيني العربي، الذي يعرف كيف يحافظ على حرية الديانات وعلى دور العبادة لكافة المؤمنين في الأرضِ،وجاء مؤتمر القمة العربية في27 آذار الماضي في مدينة سيرت الليبية بعد افتتاح كنيس(الخراب)على بعد أمتار من المسجد الأقصى،وبعد الاعلان عن مخططات استكمال تهويد القدس،تمهيدا لهدم الاقصى الذي اصبح أمرا جديا،واتخذ قرارات استرضاء وتبويس اللحى بين القادة المتخاصمين دوما،لكن لم يتخذ قرارات جدية لانقاذ القدس وتحريرها من أسرها الذي طال أمده،فهل ستنتبه الدول العربية والاسلامية التي لم تعد ترى بديلا للمفاوضات الا المفاوضات لما يجري في القدس، وتطرح قضيتها في المحافل الدولية،وفي مقدمتها مجلس الأمن الدولي،وذلك أضعف الايمان من ضعيفي الايمان،أم سينتظرون الأشهر القادمة وعندها سيبكون القدس والأقصى ولن يجدوا من يعزيهم بالمصاب الجلل؟