التوكل على الله ..روى البخاري والنسائي وغيرهما
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:
حسبنا الله ونعم الوكيل
قالها إبراهيم عليه الصلاة والسلام
حين ألقي في النار ،
وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:
"إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً
وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ."
آل عمران173.
نقف مع هذا الحديث الوقفات الآتية :
الوقفة الأولى:يدل الحديث على أمر جلل ومسألة عظيمة ،
تساهل فيها أقوام فضلوا واستسلموا للشياطين ،
وصاروا نهباً للحيرة والضلالات ،
وحادوا عن الطريق المستقيم ،
وتمسك به عباد الله الموفقين فأيدهم ونصرهم ورزقهم
وآواهم وحفظهم وأنزل عليهم السكينة
والطمأنينة والراحة النفسية ،
هذه القضية المهمة التي نتذكرها في كل ركعة
من ركعات صلاتنا هي الاستعانة بالله والتوكل عليه:
"إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ"
والتي لا يجوز صرفها ولا صرف شيء منها لغير الله تعالى.
التوكل على الله :
هو الاعتماد على الله تعالى وقوة الثقة به ،
وأنه حسب العبد وكافيه ،
موقناً أن الأمور كلها بيد الله تعالى فلا معين إلا هو ،
ولا مغيث إلا هو ، ولا مصرف للكون إلا هو ،
خالق الخلق ومدبر شؤونهم ، والعالم بأحوالهم .
فالمتوكل على الله هو الذي يعتمد عليه ويثق به
ويلجأ إليه ويطمأن بموعوده .
ولعظم هذه المسألة في عقيدة المسلم أمر أن يتذكرها ،
وأن يستصحبها في جميع أحواله وشؤونه ،
فجاءت توجيهات الإسلام العامة ،
والخاصة بأشياء معنية بهذا الأمر الجلل ، يقول الله تعالى:
" وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ".
المائدة23، وقال تعالى عن موسى عليه السلام :
"وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ
فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ" يونس84.
وقال تعالى عن نوح عليه السلام:
"يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ
فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ ".
يونس71،
وقال عن هود عليه السلام :
"إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم
مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا
إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ"
هود56،
وقال عن شعيب:
"وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ"
هود88،
وقال لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم:
"فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ"
النمل79
وقال له :
"يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ"
الأنفال64،
وقال عن عباده المؤمنين :
"الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ *
فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ
وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ"
آل عمران173.
فالتوكل على الله عبادة جليلة ، يجب إخلاصها لله سبحانه ،
بل من أعظم العبادات القلبية التي يجب التنبه لها ومعاهدتها .
الوقفة الثانية :من رام المعالي هانت عليه السبل فهذه العبادة الجليلة
لها أثار محمودة عظيمة فمن يريد تحصيلها
فليخلص قلبه في طلب هذا التوكل.
فالتوكل على الله تعالى يورث صاحبه قوة وشجاعة ،
وثباتاً واطمأناناً . تهون أمامه كل قوة ،
فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام
عندما ألقي في النار لم يزد على أن قال:
"حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"
فقال الله تعالى للنار:
"كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ"
الأنبياء69 .
والتوكل على الله ينتج الرزق الواسع ،
والخير العميم ، والفضل الكبير ،
قال تعالى :
"ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب"
، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله
لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً ).
، فيبشر المتوكلون برزق الله تعالى وفضله وإحسانه ،
والتوكل على الله سبيل لقطع الوساوس الشيطانية ،
والهواجس المخيفة ، والارجاف في طلب المعاش خشية الفقر ،
والتعلق بالأوهام والخزعبلات ، حال المصائب والأمراض ،
والشيطان يحرص أن يدخل على الناس من هذه المداخل
لكي يزعزع إيمانهم ، ويضعف يقينهم ، ويخلخل عقيدتهم .
فالذي يعتمد على الله تعالى ويتوكل عليه يرى
حقارة هذه الوساوس والخزعبلات .
والتوكل على الله تعالى سبيل السعادة والراحة النفسية ،
فأسعد الناس في هذه الحياة المتوكلون على الله تعالى حق توكله ،
إذ إنهم يعلمون أن الحياة السعيدة ليست بكثرة المال والعرض ،
أو الجاه أو النصب أو غيرها ما لم يعمر هذه الأشياء إيمان عميق ،
قال الله تعالى :
"ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب
ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره
قد جعل الله لكل شيء قدراً "
عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما
وفي هذه الحلقة نكمل بقية الكلام عليه:
الوقفة الثالثة :جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ودخل إلى المسجد ليصلي ،
إن من تمام عقيد المسلم تجاه التوكل أن يعلم أن
التوكل لا يعني ترك الأسباب المشروعة ،المأمور بها ،
فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
أعقل دابتي أو أتوكل على الله ؟ فأجابه عليه الصلاة والسلام :
(اعقلها وتوكل)،
وكما جاء في فتح المجيد قوله : قال العارفون :
التوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض
وإن كان مشوباً بنوع من التوكل ،
فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزاً ، ولا عجزه توكلاً ،
وهذا معروف في الحياة فلا نسل بدون زواج ،
ولا ثمرة بدون زرع ،
بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود
إلا بها كلها كما ذكر ذلك ابن القيم وغيره .
ولا رزق بدون عمل ، فالمسلم مطالب بأن يحقق التوكل على الله
ويبذل الأسباب ولكن لا يتكل عليها . فالنتائج بيد الله سبحانه.
الوقفة الرابعة:في الحياة تقلبات ، أحوال وأحداث ،
وأفراح وأتراح ، وشدة وضيق ،
ولذا تحصل هفوات في تعامل المسلمين مع توكلهم على الله :
فتجد بعضاً من المسلمين يجري على ألسنتهم
الخوف من المستقبل ،
والتشاؤم فيه ، وكأن الأمور بيد البشر ،
وكذا تعلق بعض المسلمين بالسحرة والكهان والمشعوذين ،
وطلب شفاء أمراضهم منهم ،
وتصديق أخبارهم وإرجافاتهم وخزعبلاتهم ،
وكذا الشعور الدائم بالقلق من أمور الدنيا
وعدم الثقة بالله وبموعوده ،
وكذا الطمع والجشع المؤديان إلى الشح والبخل
والخوف على الرزق
وعدم صرفه بمصارفه الشرعية ،
والتعلق بالطبيب المعالج واعتقاد أن الشفاء عنده أو بأدويته ،
أو التداوي بالأدوية المحرمة ،
أو الخوف على رزق الأولاد ومستقبلهم ،
أو النفاق والمجاملة المذمومة مع الآخرين
لطلب ما عندهم دون الله سبحانه ،
فضلاً عن طلب شفاعتهم فيما لا يقدر عليه إلا الله ،
وكذا طلب الرزق من الطرق غير المشروعة ،
والتفكير السلبي المتشائم من المستقبل ،
وكذا الاستجابة لوساوس وأوهام الشياطين؛
كل هذه المظاهر وغيرها
مردها ضعف التوكل على الله ، وقلة اليقين بالله سبحانه ،
وعدم إحسان الظن به .