نستطيع أن نفكر أن فن المسرح في العراق يمكن أن يتحول بمرور الزمن إلى ماضٍ مجرد، كما يحصل اليوم مع الكثير من الأشياء التي بدأت تتحول هي الأخرى إلى ذكريات بعيدة، بينما كانت تمارس الحياة معنا بشكل دائم، وأقرب شاهد إلينا هي الفنانة "فيروز" وأغانيها التي كانت تلامس صباحاتنا بالأمس القريب، واليوم باتت تلك الأغاني بلا أي طعم، فقد ثقلت الرؤوس بالأوجاع وكثرت الهموم لدرجة أن "فيروز" أصبحت ماضٍيا جميلا وحاضرا شاذا لا علاقة له بالحياة التي نعيشها. ألا انها عادت إلينا اليوم عبر عرض مسرحي جديد يحمل عنوان (غربة)، والذي قدم مؤخراً على قاعة منتدى المسرح في بغداد، وهو من تأليف: جمال الشاطئ، وإخراج: كريم خنجر، دراماتورج وتمثيل الفنان سامي عبد الحميد.فقد كانت "فيروز" أحد الأصوات التي صدحت في هذا العرض الذي امتلأ بالغربة من البداية حتى النهاية، والتي كانت عناصرها حاضرة هي الأخرى من خلال الحوار الذي تبناه النص الدرامي تارةً في مداخلة مع كينونة هاملت الشكسبيري، وتارة أخرى مع مضمون رسالة كتبها أحد المهاجرين منذ زمن، والتي تعد الثيمة الأساسية التي يعتمد عليها المؤلف في صياغة نصه هذا.
وإذا أردنا أن نقلب أوراق المهاجرين في الماضي والمهجرين في الحاضر من هذه البلاد أو تلك فإننا بالتأكيد نريد أن نغوص عميقاً في جراحات الرحيل ووجع "الغربة" الذي لا ينتهي بحكاية واحدة، إلا أن الأمر في هذه المرة قد اقتصر على "غربة" أحدهم، وكل هجرة تعني المجهول.
فبعد الموت ومراسم الدفن والدموع التي تذرف على الجنازة لا يبقى للميت سوى التفكير في مجاهيل حياته التي عاشها، فهذا الغريب كان يعاني من عذابات عدة، أهمها إجباره على الاعتراف وخيانة أحبته من أجل الخلاص من سلاسل جلاديه وقسوتهم وهم يجثمون على صدر هذه البلاد منذ الأزل، وغريبنا هذا يمني النفس بالهروب إلى موته من دون أن يخسر الأحبة والأصدقاء. إن كلمات الوجع في هذا العرض كانت تنتشر في كل مكان، لاسيما إذا كانت تخرج عبر أداء واحدٍ من رواد المسرح في العراق، ولكن الكلمة وحدها لا تكفي لصناعة عرض مسرحي، إذ كان على المخرج أن يستثمر ذلك الجهد الاستثنائي الذي يقدمه (سامي عبد الحميد) في سنواته الثمانين.. ربما!، وإنما اكتفى مخرج العرض بالاعتماد على تاريخ هذا الفنان وقدرته على نجاح أي عرض مسرحي يشارك فيه، فنراه اليوم يستذكر للأجيال الجديدة، تلك الشخصيات التي طالما أحب ظهورها على خشبة مسارح بغداد في درس يعبر فيه عن شغفه بهذا الفن، فيعرفنا على هاملت، وأنتيجونا، والمتنبي وغيرها من الشخصيات التي قام بتمثيلها وإخراجها.
من جهة ثانية نجد أن المخرج قد توجه إلى صناعة مكان العرض والذي أنقسم إلى مفهومين أحدهما وصل إلى المتلقي من اللحظة الأولى فقد كانت بيئة المكان تشير إلى "قبر" ومن حوله مجموعة مقابر تهدم بعضها وتناثرت الهياكل العظمية للبشر الذين كانوا يسكنوها.
أما المفهوم الثاني والذي تطلب الوصول إليه تأسيس منظومة من العلامات التي أنتجها العرض من خلال لون وملمس أزياء الممثل من جهة، ولون وملمس باقي المكان من جهة أخرى، أذ ان المخرج اختار أن يستخدم خامة (الجنفاص) ليخلق وحدة متكاملة للمكان والممثل، وقد احتاج المخرج إلى بعض اللمسات الجمالية على ديكور المكان من أجل تعزيز المفهوم الثاني من الناحية الفكرية. فقد كان الديكور يوحي بزي امرأة ضخمة، وقد كانت في الوقت ذاته خلفية للعرض، وبهذا الشكل تكونت العلامة الأهم في هذا العرض، ذلك أنها منحته معنى آخر، أرتبط بخروج الممثل /الشخصية من رحم هذه المرأة، وهو يتجه إلى المجهول. إن الإشارات التي يؤسس لها العرض دفعت بالمتلقي إلى التفكير بالانتهاكات التي تتعرض لها هذه المرأة عبر أساليب عدة، كان من بينها توظيف السلاسل التي يشير إلى زمن لم ينته بعد من الاعتقالات والتحقيقات، ومحاولات الآخرين في اختراقها عبر أيادٍ خفية تمنح الأمل الوهمي للمهاجر /الميت.
وقد منحت كل تلك الانتهاكات لهذه المرأة قدرة أكبر على التحمل، فقد كانت هذه المرأة ترمز إلى الأرض التي تحتضن الإنسان سواء كان حياً أو ميتاً.. وهذا هو حال بلادنا التي تقع عليها ويلات الحرب والدماء التي تملأ الأرض، والفساد الذي يأكل من خيرات تلك الأرض / المرأة التي تبقى وفية لأحيائه وأمواته.
إن ما يثير التساؤل في هذا العرض هو استخدام لمصطلح (الدراماتورج) في (بوستر العرض) والذي نحاول جاهدين تفسير استخدامه، إذا ما عرفنا أن تعريفاً دقيقاً لهذا المصطلح كما ورد في (الموسوعة المسرحية) فانه يعني: "المستشار الأدبي، ومسؤوليته الأساسية اختيار المسرحيات لإنتاجها والعمل مع المؤلفين" والسؤال الذي قد يثير المتلقي يقوم على طبيعة حاجة (سامي عبد الحميد) إلى أن يكون مستشاراً أدبياً، بينما كان الأجدر أن يكون هو ذاته مخرج العرض ومؤلفه كذلك، إذ ان الكثير من حوارات النص هي استعادة لذاكرة (سامي عبد الحميد ) نفسه على مدى سنين طويلة، فما الحاجة إذن إلى مؤلف أو مخرج غيره.. مع احترامنا للقائمين على كتابة وإخراج العرض، إلا اننا نتكلم عن قامة مسرحية اسمها (سامي عبد الحميد).
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : جريدة العالم