أثر المهاجرين في الحياة الاقتصادية في العهد النبوي
كاتب الموضوع
رسالة
المدير العام المدير العام
عدد المساهمات : 1237تقييم الأعضاء : 1تاريخ التسجيل : 03/01/2011الموقع : https://startimes17.yoo7.com
موضوع: أثر المهاجرين في الحياة الاقتصادية في العهد النبوي الثلاثاء أبريل 02 2013, 12:23
أثر المهاجرين في الحياة الاقتصادية في العهد النبوي د. عبدالعزيز بن عبدالله السالم
يهدف هذا البحث إلى دراسة أحوال المهاجرين ومعيشتهم وعلاقتهم بمجتمع المدينة، مع إبراز أهمّ الأعمال الَّتي قاموا بها في عهد النبوَّة، حيث تناولتُ فيه الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت عليها المدينة عند بداية قدوم المهاجرين إليها، موضحًا فيه أحوال المهاجرين في المدينة وعملهم في التجارة التي شجَّعهم الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على العمل بها؛ لتنمية موارد المسلمين الاقتصادية، وذلك بحكم خبرتهم السَّابقة في مكَّة ومهارتهم في شؤونها، فعمل بها بعض المهاجرين الذين استطاعوا التَّوفيق بينها وبين الجهاد ونشْر الدَّعوة.
وهو الهدف الأساس الذي هاجروا من أجله، ويبدو أنَّ المهاجرين قد تمكنوا بعد مدَّة قصيرة من إقامتهم بالمدينة من الهيمنة على أسواقها التجارية؛ والسبب يعود إلى خبرتهم السابقة كما ذكرنا، وتطرَّقت إلى موضوع الصناعات والحرف في المدينة التي تعتمد أساسًا على مواردها الأوَّليَّة من المنتجات الزّراعيَّة وغيرها؛ مثل: تجفيف التمور واستخدام سعف النَّخيل، وكذلك الصناعات التي تعتمد على المنتجات الحيوانيَّة؛ كدباغة الجلود وإعداد الصوف وتنظيفه وصناعة النسيج، حيث عمل بعض أهل المدينة إلى جانب ذلك بعض الأعمال الأخرى مثل التعدين والنقش، وأيضًا مهنة الرَّعي وهي من الأعمال التي يمارسها أهل المدينة، ويبدو أنَّ المهاجرين قد انقسموا إلى طبقتَين: طبقة استطاعت الجمع بين العمل في التجارة للاكتساب منها وبين الجهاد في سبيل الله والتفقُّه في أمور الدّين ومساعدة الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رعاية شؤون المسلمين.
أمَّا الطبقة الأخرى، فإنَّ أفرادها لم يستطيعوا الجمْع بين كلّ ذلك، فنلاحظ أنَّهم تركوا العمل والتكسُّب واكتفَوا بالجهاد وملازمة النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - للتفقُّه في الدين، وتنفيذ ما يكلّفهم به من أعمال، وأنَّ هؤلاء ينفقون على أنفسهم ممَّا يحصلون عليه من غنائم في جهادِهم وخروجهم للغزْو، إضافة إلى ما يأتيهم من المساعدات الَّتي كان يقدِّمُها لهم أغنياء المهاجرين.
الحالة الاقتصاديَّة بالمدينة: لم تكن المدينة في حالة اقتِصاديَّة جيّدة عند قدوم المسلمين إليها مهاجرين من مكة؛ لأنَّ الحروب الطاحنة التي دارت بين الأوس والخزرج كادت تقضي على اقتصادها تمامًا، كما لم يكن المحصول الزّراعي كافيًا إلاَّ بالقدر الضروري، بل كثيرًا ما كان أهل المدينة يستوردون من الشام الحبوب والدقيق ليتزوَّدوا به وليكملوا النقص في محاصيلهم الزراعيَّة.
ولما قدم المهاجرون إلى المدينة، ونزلوا على إخوانهم الأنصار ازدادت الحالة الاقتِصاديَّة سوءًا، فقد أصبح الطَّعام الذي يكفي الواحد لا بدَّ أن يتَّسع لاثنين أو أكثر، وأخذ الأنصار يقدمون إخوانهم الوافدين على أنفُسِهم ويؤثرونهم بما عندهم، ولو أدَّى ذلك إلى حرمانهم، وإنّا لنلمح تصويرًا دقيقًا للوضع الاقتِصادي في المدينة من خلال الآية الكريمة: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9].
والإيثار هو تقديم الآخَر على النفس، وذلك لا يكون إلاَّ عند قلَّة الشيء؛ إذ لو كان كثيرًا لم يكن هناك إيثار بالمعنى المتقدّم، فالآية إذن تعبير صريحٌ عن الضيق الاقتصادي الذي كان يعاني منه أهل المدينة.
بدأ أهل مكة في اضطهاد المؤمنين، وزادوا في تعذيبهم، فلم يعد أمامهم سبيل إلى النجاة إلاّ ترك بلادهم وأموالهم، وعزموا على أن يشتروا عقيدتهم بما يملكون من متاع الدنيا، وأن يضحّوا في سبيلها بكلّ شيء ولو كان هذا الشيء هو الوطن الغالي على نفوس الناس؛ من أجل هذا ضحَّى المسلمون بالوطن والأهل والمال والولد فرارًا بدينِهم وعقيدتهم، ولكن إلى أين يتَّجهون؟ لقد ذهبوا إلى الحبشة فوجدوا فيها أمنًا وسلامًا، ولكنَّهم لم يجِدوا فيها تربة صالحة تحتضِن تلك البذور حتَّى تنمو، وليست الغاية من الهجرة الخلود إلى الرَّاحة، واقتناص فرص الأمن والطُّمأنينة، وإنَّما هي خطوة إيجابيَّة لنشْر الدَّعوة، وتثبيت العقيدة وإقامة الدَّولة الَّتي هي أمل المؤمنين، وليست أرض الحبشة ميدانًا لهذا العمل العظيم، لقد ثار أهلُها على النجاشي؛ لأنَّه أعلن إسلامه لمَّا سمع ما سمع من وفْد المهاجرين، فكيف هذه البلاد تسمح بنشْر الدعوة وإقامة الدولة؟ لذلك لا بدَّ من البحث عن مكان صالحٍ يلجأ إليه المهاجرون.
اتجه المسلمون إلى المدينة، حيث هاجروا جماعات وفرادى، ورسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مقيم في مكة ينتظر أمر ربِّه، حتَّى أذن له في الهجرة فاصطحب أبا بكر - رضي الله عنه - وودَّعا مكَّة وسارا إلى المدينة، ودخلاها في يوم الاثنَين الثاني عشر من شهر ربيع الأوَّل، واستقْبل الأنصار رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصاحبه ومن قبلهما المهاجرين من المسلمين بالحفاوة والتَّكريم.
لم تكن المدينة في حالة اقتصادية جيدة عند قدوم المسلمين إليها مهاجرين من مكة، وبعد ذلك استقرَّ رأْي الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - على أن يحدث في المدينة تغييرًا شاملاً يقضي به على الفساد المستشري في أوضاعها، ويزيل المعالم الَّتي من شأنِها أن تُثير الأحقاد بين سكَّانها، ويُرسي قواعد جديدة للأمَّة التي يريد تكوينها.
ولا شكَّ أنَّ الإسلام حين دخل المدينة ألَّف بين الأوس والخزرج، وانتهتْ بذلك جَميع الخلافات التي استمرَّت مدَّة طويلة؛ لهذا نجد أنَّ سكَّان المدينة تفرَّغوا لأعمالهم الزّراعيَّة وبدأت المحاصيل الزّراعيَّة تكثر في المدينة، وبدأ المهاجِرون وأصحاب الخبرة التجارية يمارسون التجارة وأخذ الوضْع الاقتصادي يتحسَّن قليلاً. وبهذا بدأ الاقتِصاد في المدينة بطيئًا والمسلمون ينتظِرون اليُسْر بعد العسر، والرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - بينهم لا يتميز عنهم.
والإسلام حينما دخل المدينة كانت غارقةً في أوضاع اقتِصاديَّة سيِّئة للأسباب الآتية: 1- أنَّ اليهود أمسكوا بزمام الأمر بواسطة رؤوس الأموال الضَّخمة. 2- تفشِّي الربا بصورة كبيرة من قِبَل اليهود، وكاد يقضي على ممتلكات النَّاس. 3- انتشار الرشوة، والعبث بالمكاييل والموازين. وأمام هذه الأوضاع الاقتِصاديَّة السيِّئة وضع الإسلام أسسًا أرْسى عليها الاقتِصاد الَّذي يُريد بناءَه من جديد؛ لهذا أعطى الإسلام العمل منزلة عالية وقدرًا رفيعًا، لهذا حثَّ عليه ورغَّب فيه، ولتأكيد هذا المعنى في النفوس قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أكل أحد طعامًا قطّ خيرًا من أن يأكُل من عمل يده، وإنَّ نبيَّ الله داود كان يأْكُل من عمَل يده)).
من هذا يتَّضح لنا منزلة العمل في الإسلام واهتمام الإسلام به؛ لأنَّه مصدر من مصادر تنمية الاقتصاد، لهذا أدرك المسلمون ذلك فكان كل رجل منهم يتخذ لنفسه حرفة يعيش منها، إلى جانب ما يتلقَّاه من العلوم ويُفيد فيه الناس.
والإسلام يرفض تنمية الاقتِصاد من الطرق التَّالية: • الرِّشوة والربا والغشّ، إلى غير ذلك ممَّا يؤدِّي إلى الإضرار بالنَّاس. وهذه الأمور كانت منتشِرة قبل الإسلام بين المجتمع بالمدينة، والَّذي يظهر من تتبُّع أخبار الدَّولة الاقتِصاديَّة أنَّ المسلمين بدؤُوا حياتَهم في دوْلتهم الأولى في شظفٍ من العيش وخشونة من اللِّباس، وحاجة ماسَّة إلى الضَّرورات الأوليَّة.
ولعلَّ هذا هو الَّذي دفع الرَّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يجعل لهم المسجِد بيتًا ونزلاً، وبنى فيه الصُّفَّة التي كان يأْوي إليْها الفقراء من المسلمين.
وظلَّت الأوْضاع كذلك بالنسبة للمسْلمين، وهذا الأمر طبيعي عند تأْسيس الدُّول النَّاشئة، وخاصَّة في مثل الظُّروف التي نشأت فيها دولة الإسلام، فإنَّها قامت وكلّ جيرانها أعداءٌ لها، فلم يوجد لها من الأصدِقاء مَن يقدِّم لها العون والمساعدة.
بدأتِ الأوْضاع الاقتصاديَّة في المدينة في التحسُّن شيئًا فشيئًا، وخاصَّة بعدما بدأ المسلمون معاركهم العسكريَّة مع أعدائهم، وكسبوا من الغنائم والفيْء ما وسَّع الله به عليهم.
أوَّلاً: الزّراعة: نظرًا لما تتمتَّع به أرض المدينة من اعتِدال في المناخ ووفرة المياه، أصبحت بلدًا زراعيًّا زاول غالبيَّة أهلها الزِّراعة عربًا كانوا أم يهود، ومعظم سكَّان المدينة يعملون في أراضيهم الزّراعيَّة بأنفسهم على مختلف مستوياتهم؛ وذلك أنه لم يكن لأكثرهم خدم يكفونهم العمل في أراضيهم، وقد عمل بعض الفقراء والمحتاجين الَّذين لا يملكون أراضي زراعية بأجرة عند غيرهم ممن يملكون الأراضي.
والزّراعة هي عماد اقتصاد المدينة حين قدوم المهاجرين إليها، وكان التَّمر أهم محصولاتها الاقتصادية، يليه في الأهمّية الشعير حيث كان منهما غالب طعام أهلها، وإلى جانب هذين المحصولين الرئيسين محاصيل أخرى كثيرة ومتنوعة مثل الخضروات والقمح والفواكه، ويذكر ياقوت أنَّه كان يزرع بالمدينة محصول زراعي يدعى (حبّ البان) ويبدو أنَّ لهذا المحصول أهمية اقتصادية لأهالي المدينة؛ حيث ذكر أنَّه كان ممَّا يصدَّر إلى خارج البلدة.
ويستنتج من حديث رواه البخاري أنَّ الأنصار عرضوا على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين قدومه المدينة أنَّ يقسم أراضيهم الزراعيَّة بينهم وبين إخوانهم المهاجرين الذين تركوا أموالهم بمكَّة، فلم يوافق رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على هذا العرض من الأنصار، وفضَّل أن تبقى أراضي الأنصار ونَخيلهم بأيديهم كما هي ويتولَّون زراعتها والعناية بها وحدهم دون المهاجرين، على أن يتكفَّلوا بمساعدة إخوانهم المهاجرين وذلك بتقديم ما يكفي حاجتَهم من ثمارها ومحاصيلها، وقد قام الأنصار فعلاً بمنح بعض المهاجرين عذاقًا في مزارِعهم يأخذون ثمارها، وذلك مساعدة لهم من الأنصار بدون مقابل، ويشير الحديث السَّابق إلى أنَّ المهاجرين لم يعملوا في زراعة الأراضي بالمدينة في عهد النَّبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وذلك بأمر منه.
وأخرج ابن شبة حديثًا آخر في المعنى نفسه، ولكنَّه بلفظ آخر أكثر وضوحًا، فقد رُوي عن أنس أنَّه قال: قال المهاجرون: يا رسولَ الله، ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أكثر بذلاً من كثير، ولا أكثر مواساة من قليل، كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ، فقد خشينا أن يكون قد ذهبوا بالأجر كلّه، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلا ما دعوتُم لهم وأثنيتم عليهم)).
وقد فسَّر العمري موقف رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورفضه مبدأ تقسيم أراضي الأنصار بينهم وبين إخوانهم المهاجرين بالعمل في الزراعة؛ لأن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان في حاجة إليهم ليقوموا معه بتحمُّل مهامّ الجهاد والدَّعوة، ومن المعروف أنَّ عبء القتال والجهاد كان يقع في بداية الأمر على عاتق المهاجرين، فقد رُوي أنَّ الأنصار لَم يشتركوا مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قبْل غزوة بدْر الكبرى في غزْوة ولا سريَّة.
وممَّا يؤيِّد عدم اشتِغال المهاجرين بأيديهم في الزِّراعة بالمدينة أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لمَّا غنم أراضي بني النَّضير وغيرهم من اليهود في يثْرب وأقطع منها للمهاجرين، ذكر أنَّهم أعطوها مزارعة لمن يصلحها لهم ويزرعها مقابل شيء معلوم من نتاجها.
كما تجدر الإشارة هنا إلى أنَّه لم يكن للمهاجرين في زمن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عبيد يستخْدِمونهم في إصلاح أراضيهم وزراعتها، كما يفعل النَّاس في مكَّة في أراضيهم التي كانوا يملكونها، هذا إلى جهل غالبية المهاجرين بشؤون الزّراعة وقلَّة خبرتِهم بأمورها.
ولعلَّ استبعاد اشتغال المهاجرين بالزراعة يخالف الرأي القائل: إنَّ المهاجرين قد عملوا بالزراعة في المدينة إلى جانب الأنصار، ولعلَّ الذي حدث هو العكس تمامًا؛ ذلك أنَّه عندما أقطع النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعض الصَّحابة من المهاجرين أراضي بالمدينة، قام أولئك بدفْعِها إلى من يصلحها ويزرعها من الأنصار مقابل جزء معلوم من نتاجها يتَّفق عليه الطرفان مسبقًا.
ويبدو أنَّ الزراعة في المدينة قد ازدهرت وتحسَّنت في عهد النبوَّة عمَّا كانت عليه من قبل؛ وذلك بسبب تشجيع النبي لأصحابه باستصلاح ما أقطعهم من أراضٍ كما يُروى أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يأمر الناس بغرْس فسائل النَّخيل في مكان ما يقطع من شجر.
ثانيًا: التّجارة: كان احتِراف التجارة من الأعمال الرئيسة التي زاولها أهل المدينة من عرب ويهود، ويبدو أنَّ اليهود كانوا يشكّلون الغالبيَّة العظمى لتجَّار المدينة عند مقدم رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويتَّضح ذلك من خلال الروايات التي تدل على كثرة تعامل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وعامَّة الصَّحابة مع تجار من اليهود، ولعلَّ ما عرف عن اليهود من شدة الجشع وحبّ المال وتعاملهم مع غيرهم من النَّاس بالرّبا الفاحش وعدم التَّسامُح، كان كلّ ذلك من أسباب سيطرتِهم على رؤوس الأموال بالمدينة، وأنَّه كثيرًا ما كان يتعرَّض الأنصار لضياع أموالهم بسبب تعامُلهم المالي مع اليهود. ويبدو أنَّ التجارة كانت تأتي في المقام الثَّاني بعد الزراعة في المدينة، وقد نشطت التجارة الداخلية منها التي كانت تتمثَّل في تبادل السلع المحلية المختلفة من المنتجات الزراعية والحيوانية لأهل المدينة، ومما يجلبه أهل البادية من خيل وإبل وأغنام ومنتجاتها من الألبان والأصواف وغيرها، هذا بالإضافة إلى ما ينتجه صنّاع المدينة من مختلف الصناعات المعدنية من أسلحة وأدوات وحلي وتحف وغير ذلك من الصناعات الأُخْرى الَّتي اشتهرت بها المدينة.
وقد قامتْ لأجل ذلك أسواقٌ عدَّة في المدينة؛ لتصْريف تلك المنتجات وتبادُل السِّلَع، ومن تِلك الأسواق أسواق كانت مشهورة ومعروفة في الجاهليَّة، وظلَّت قائمة حتَّى قدوم النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - والمهاجرين إلى المدينة، نذكُر منها سوق زبالة شمال المدينة، وسوق الجسر في بني قينقاع وكانت تُعْرَف باسمهم فيُقال لها سوق بني قينقاع، وسوق الصفاصف بالعصبة، ومن تلك الأسواق أيضًا سوق زقاق ابن حيين، وكان يقال لموضعها مزاحم، ومن أسواق يثرب أيضًا سوق الربذة وكان يقال لها أهوى، ولمَّا قدم رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المدينة واستقرَّ المسلمون بها، أراد - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن يجعل للمسلمين سوقًا خاصَّة بهم، فأنشأ سوقًا جديدة جعلها مباحة لجميع المسلمين لا يُؤخذ منها ضريبة، وجعلها صدقةً عليهم وأطلقت على هذه السوق أسماء كثيرة، فكان يُقال لها بقيع الخيل، كما أطلق عليها أيضًا اسم البطحاء وسمِّيت كذلك بسوق حرض. وقد أدَّى وقوع المدينة على الطَّريق التِّجاري القديم الممتدّ عبر شبه الجزيرة العربيَّة فيما بين اليمن جنوبًا إلى الشام شمالاً إلى أن جعل لها حظًّا طيِّبًا في المشاركة بنصيب وافر في التِّجارة الخارجيَّة لبلاد العرب، فقد ساعد موقعها وخصوبة أرضها إلى اتّخاذها محطَّة للتجارة، فنشطت بها التجارة البرية، كما أصبح ميناؤها القديم الجار منفذًا لها على البحر حيث ترسو كثير من السفن التجارية القادمة من الحبشة واليمن للتبادُل التجاري.
وقد برع بعضُ اليهود في التجارة الخارجيَّة أيضًا، ويروى أنَّ نجاح أحدهم قد أثار حقْد بعض تجَّار قريش في الجاهليَّة، واعتبروه منافسًا خطيرًا لهم، وكان بعض أولئك اليهود يخرجون بأنفُسهم للتجارة الخارجيَّة ويعودون إلى المدينة بما يحتاجه أهلها من مختلف أنواع السلع والطعام، بينما يكتفي بعضهم بإرسال تجاراتهم إلى الشام برفقة القوافل التجارية، ويقومون باستيراد بعض الأقمشة المختلفة من الشام، وقد عمل الأنصار في التِّجارة الداخلية والخارجية أيضًا.
وممَّن عُرِفوا بالتجارة منهم في عهْد الرّسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - أبو معلق الأنصاري والبراء بن عازب، وزيد بن الأرقم، وكان يأْتي المدينة إلى جانب تجَّارها من العرب واليهود بعض التجَّار الغرباء الذين يحملون معهم مختلف بضائع الشَّام وأطعمتها وطرائفها، كذلك كان لتجَّار فارس صلة واتّصال تجاري بأسواق المدينة، ويروى أنَّهم كانوا يأتونَها أيضًا ببضائع بلادهم.
ولمَّا قدم المهاجرون إلى المدينة عمِل بعضهم بالتِّجارة، خاصَّة وأنَّ التّجارة كانت حرفتهم الرئيسة في مكَّة قبل الهجرة، فكانوا يخرجون إلى الأسواق يبيعون ويشترون، كما كانوا يشاركون أيضًا في أسواق العرب الموسميَّة التي كانت تقام في أماكن متفرِّقة خارج المدينة.
وكانوا إلى جانب ذلك يَخرجون في رحلات طويلة إلى بلاد الشَّام وغيرها من البلاد البعيدة بقصْد التِّجارة، ويستنتج من رواية البخاري أنَّ المهاجرين الأوَّلين كانوا يخرجون إلى الشَّام للتِّجارة منذ مقدمهم إلى المدينة وقبل هجرة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إليها، فقد جاء في الحديث، أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لقِي الزُّبير في ركْب من المسلمين كانوا تجَّارًا قافلين من الشَّام فكسا الزُّبير رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبا بكر ثيابًا بيضًا.
ويبدو أنَّ المهاجرين استطاعوا بعد فترة وجيزة من إقامتهم بالمدينة أن ينشطوا في أسواقها التجارية، وذلك بسبب ما عرف عنهم من مهارة فائقة في تصْريف أمور التجارة، فقد حقق كثيرٌ منهم أرباحًا ومكاسب هائلة في وقت قصير، واشتهر جماعة من كبار المهاجرين بالتجارة في المدينة، نذكر منهم على سبيل المثال: أبا بكر الصدّيق وعمر بن الخطَّاب وعثمان بن عفَّان وعبدالرحمن بن عوف.
وممَّا يُذْكر أنَّ عبدالرحمن بن عوف استطاع تحقيق ثروة عظيمة في المدينة في زمن قصير، ويُروى أنَّه عندما قدم إليها مهاجرًا كان فقيرًا لا يملك شيئًا، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد آخى بينَه وبين سعد بن الرَّبيع الأنصاري أحد أثرِياء المدينة، فعرض عليه سعد أن يقتسِم معه كلَّ ما يملك من مالٍ، فأبى ابنُ عوف ذلك على نفسِه وفضّل أن يبدأ بالعمل بالتّجارة بداية متواضعة، فخرج إلى سوق بني قينقاع فباع واشترى، ثمَّ توالت عليه المكاسب حتَّى اغتنى وكثُرتْ أمواله، فيروى أنَّه تصدَّق على عهد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأموال كثيرة على فترات؛ فقد روي أنَّه بلغ ما تصدَّق به في إحدى المرَّات أن حَمَل خمسمائة فرس في سبيل الله، ثمَّ حمل مرَّة أخرى على ألف وخمسمائة راحلة في سبيل الله، وذكر أنَّ عامَّة ماله من التجارة.
ويستنتج من بعض الروايات أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يشجّع عامَّة المسلمين على مزاولة التجارة، ويبدو أنَّ السَّبب الذي دفع الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى ذلك هو قلَّة موارد المسلمين المالية في المدينة، وما كان يعانيه المسلمون من ضائقة ماليَّة شديدة قد لا يستطيعون التغلّب عليْها إلاّ بالعمل بالتجارة؛ ذلك لما عُرِف من مكاسبها العظيمة، وكان المسلمون بحاجة إلى موارد اقتِصاديَّة مستمرَّة ليتمكَّنوا من مجابهة أعدائِهم الأقوياء اقتصاديًّا، كاليهود في داخل المدينة وقريش وحلفائها في خارجها.
وقد تجلَّى موقف رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من تشجيع التجارة عندما خرج وأصحابه من مهاجرين وأنصار للِقاء أبي سفيان بن حرب يوم بدر الموعد، وكانت بدر مكانًا يجتمع فيه العرب، وتقام به أسواقهم الموسمية.
فخرج المسلمون مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بتجارة وبضائع، فوصلوا بدرًا ليلة قيام ذلك السوق، وأقاموا بها ثمانية أيَّام يبيعون ويشترون ويعقدون الصَّفقات، وذكر الواقدي أنَّ المسلمين كانوا أكثر أهل ذلك الموسم؛ حيث بلغ عددهم ألفًا وخمسمائة رجل، كما روي عن عثمان بن عفَّان - رضي الله عنه - أنَّه قال: "فلقد خرجت ببضاعة إلى موسم بدر فربحت للدّينار دينارًا فرجعنا بخيرٍ وفضْل من ربِّنا".
وكان التجَّار المسلمون من مهاجرين وأنصار لا يضيِّعون فرصة يستطيعون العمل من خلالها على تنمية مواردهم الماليَّة وعقد الصفقات التّجاريَّة، فيُروى أنَّهم كانوا يتاجرون أحيانًا أثناء خروجهم للغزْو، وحدث ذلك في غزوتَي خيبر وتبوك، كما يروي دحية بن خليفة الكلبي، الذي بعثه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بكتاب إلى عظيم بصرى، ليسلمه بدوره إلى قيصر الروم، قد خرج بعد انتهاء مهمَّته إلى أسواق بصرى، وعاد محمَّلاً بتجارة وبضائع من تلك البلاد.
وقد التحق بعض كبار الصَّحابة في العمل بالتجارة، حتى إنَّ عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حينما ذكر له أثناء خلافتِه أحد الأحكام الشَّرعيَّة التي لم يسمعها عن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذكر أنَّ سبب فوات ذلك عليه هو كثرة انشغاله بالتجارة في حياة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم.
إلاَّ أنه يجب أن نوضّح هنا أنَّه على الرَّغم من كثرة اشتغال بعض أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالتجارة الداخلية والخارجية، فقد كانوا لا يتخلَّفون عن الخروج للجهاد مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشهود غزواته إذا كانوا حاضرين بالمدينة، وقد قيل فيهم: "كان القوم يتبايعون ويتاجرون، ولكنَّهم إذا نابهم حقّ من حقوق الله لم تُلْهِهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله حتَّى يؤدّوه إلى الله"، وقد ذكر الله في كتابه الكريم قوله تعالى: ﴿ رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ﴾ [النور: 37].
ثالثًا: الصناعات والحرف: قامت في المدينة بعض الصناعات والحِرَف الضَّروريَّة؛ لتلبية متطلَّبات لا يستطيع أي مجتمع مستقرّ البقاء بدونها، كما قامت فيها بعض الصناعات التكميلية الأخرى كصناعة الحلي. ومن أهمّ الصناعات التي قامت في المدينة تلك الصناعات التي تعتمِد في مواردها الأوَّليَّة على المنتجات الزّراعيَّة المحلّيَّة، مثل تجفيف التّمور، وتَخزينها وإعدادها للبَيع وصنع الخمْر منها قبل تحريمه، كما استخْدم سعف النخيل وأليافه في عمل أدوات كثيرة مثل القفف والحصْر، وغير ذلك مما يحتاجه النَّاس لاستخدامه في الأعمال الزّراعيَّة والاستِعْمالات الشخصية في البيوت.
ومن الصناعات التي كانت شائِعة في المدينة واعتمدت على الإنتاج الزّراعي أيضًا: حرفة النجارة؛ الَّتي نشطت لتوْفير متطلَّبات النَّاس المتزايدة لقطع الأثاث المنزلي كالكراسي والأسرَّة وما شابه ذلك مما يحتاجه الناس في بيوتهم، بالإضافة إلى عمل أبواب البيوت والنوافذ وغير ذلك من الأشْياء التي يستخدم الخشب في تصنيعها، وقد ساعد على انتِشار هذه الحرفة توافر الخشب في المنطقة، حيث يكثر شجَر الطرف والأثل في الجهة الشَّمالية من المدينة.
كما قامت صناعات أُخرى اعتمدتْ على بعض المنتجات الحيوانيَّة، نذكر من تلك الصناعات: دباغة جلود الحيوانات وخرازتها بعد دبغها لتحويلها إلى أدوات نافعة لاستعمال الناس، كذلك إعداد الصوف وتنظيفه وغزله ليصبح صالحًا لاستعماله في صناعة النسيج.
وممَّا يجدر ذكره أنَّ النساء كنَّ يعملن في بعض الصناعات السَّابقة، كالدباغة والخرازة والنسيج.
ومن الصناعات التي اشتهرت بها المدينة: الحدادة، حيث كان الحدَّادون يصنعون الآلات التي يحتاجها المزارعون في أعمالهم الزّراعية، كالفؤوس والمحاريث والمساحي والمناجل، كما كانوا يُجيدون صناعة الأنواع المختلفة من الأسلحة، كالسيوف والدروع، والسَّكاكين وأدوات الصيد المختلفة وغير ذلك من الأدوات المعدنيَّة التي لا غنى للنَّاس عنها في حياتهم اليومية.
واشتهرت المدينة أيضًا بالصياغة وصناعة الحلي والتُّحف المعدنيَّة المختلفة، وقد عمل بعضُ الأنصار في هذه الصّناعة، إلاَّ أنَّ اليهود اشتهروا أكثر باحتِراف هذه الصناعة، واختصَّ بها بنو قينقاع على وجه الخصوص، حيثُ كانت الصياغة هي الحرفة الرئيسة لهذا الحي من اليهود؛ إذْ يروى أنَّهم لم يعملوا بالزّراعة ولم تكن لهم بالتَّالي أراضٍ زراعيَّة في المدينة، وكانت لبني قينقاع سوق كبيرة تنسب إليْهم، يبيعون فيها ما يصنعون من مختلف أنواع الحلي والتُّحف المعدنيَّة وكانتْ لمصنوعاتهم شهرة واسعة في المنطقة، حيث كانت النساء يأْتين إلى سوقهم من مختلف الجهات لشراء ما يرغبْن فيه من أنواع الحلي المختلفة.
ويُروى أنَّه لمَّا أجلاهم النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن المدينة وجد بحوزتِهم كميات كبيرة من مختلف أنواع الأسلحة المعروفة في ذلك الوقت، وعدد كبير من آلات الصياغة، وعمل بعضهم إلى جانب الحرف السَّابقة ببعض الأعمال الأخرى مثل التَّعدين وهو استخراج المعادن من الأرض وكذلك عمل بعضهم في فنون النحت والتصوير والنقش، كما امتهن البعض الصيد وعمل آخرون في الأسواق أعمالاً متنوِّعة مرتبطة بالبيع والشراء؛ كان يعمل أحدهم حمالاً أو وزَّانًا يزن للناس ما يحتاجون إلى وزنه.
كذلك احترف بعض أهل المدينة مهنًا أخرى كالخياطة والجزارة والحجامة وما شابه ذلك من أعمال، ويستدلّ من بعض الروايات أنَّه كان في المدينة مَن يحترف تعليم الصِّبيان القراءة والكتابة. وكانت مهنة الرعي من الأعمال التي كان يمارسها بعض أهل المدينة، فقد كانت لهم ثروة لا بأس بها من الإبل والماشية والخيول والأغنام التي تحتاج إلى الرعي، فكانوا يخرجون لرعيها في المناطق الصالحة للرَّعي مثل منطقة الغابة وغيرها، كما كان بعض سكَّان المدينة يعملون بمهنة الاحتِطاب من المناطق المحيطة بها، ويحضرون ما يستطيعون على جمعه لبيعه في الأسواق، فيشتريه الناس لاستعماله كوقود في الأغراض المنزلية أو لبيْعِه للحدَّادين والصَّاغة الذين يستعملونه كوقود في عملهم. كذلك كانت السقاية من الأعمال التي يزاولها البعض، وذلك بِحَمل الماء من الآبار البعيدة وتوْصيلها إلى بيوت النَّاس والمسجِد، وقد مارس الصناعات والحرف السابقة جميعُ أهل المدينة من عرب ويهود، وكان لبعضِهم غلمان وعبيد يعملون في بعض تلك الصّناعات والحرف لحساب ساداتِهم.
ويبدو أنَّ المهاجرين ومنذ قدومهم إلى المدينة لم يُقبلوا على الاشتغال بأي من تلك الصناعات والحرف، ولم ينصرف أحدٌ منهم للارتِزاق منها أو التكسب، حتَّى إنَّ بعض المهاجرين الَّذين اشتهروا باحتِراف بعض تلك المهن وإجادة صنعها في الجاهليَّة، لم أتمكَّن من العثور على ما يدل على أنَّهم اتَّجهوا إلى احترافها في المدينة بعد الهجرة، مثال ذلك خباب بن الأرت الذي كان يصنع السيوف في الجاهلية بمكة، ويبدو أنَّه ترك العمل بهذه المهنة بعد هجرته إلى المدينة، حيث لم أجِد ما يثبت أنَّه زاول هذه المهنة بعد الهجرة.
كما يلاحظ أنَّ ذكر عمله بهذه المهنة كان دائمًا مقرونًا بالجاهليَّة ولم يرتبط اسمه بهذه المهنة بعد هجرته، وهذا فيما يبدو دليلٌ على عدم احترافه لهذه المهنة في المدينة.
ومن المرجَّح أنَّ المهاجرين من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد انقسموا إلى فئتين استطاعتْ فئة منهم الجمع بين العمل بالتّجارة والاكتساب منها وبين الجهاد في سبيل الله والتفقُّه في أمور الدين، ومعاونة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رعاية شؤون المسلمين، أمَّا الفئة الأخرى فلم يستطع أفرادها الجمْع بين كل ذلك، فتركوا العمل والتكسُّب واكتفَوا بالجهاد وملازمة رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - للتفقُّه في الدين وتنفيذ ما يكلِّفهم به من أعمال، إلى جانب خدمته شخصيًّا مع تدبير شؤون حياتهم الخاصَّة، وكان أفراد هذه الفئة من الصَّحابة ينفقون ممَّا يحصلون عليه من غنائم عند خروجهم للغزْو فإذا ما نفد ما عندهم اكتفَوا بما يأتيهم من المساعدات التي كان يقدِّمُها لهم أغنياء المهاجرين والأنصار، فإذا لم يقدم لهم شيء لا يسألون أحدًا، وإنَّما يخرجون للارتِزاق بعمل مؤقت مثل الاحتِطاب أو الحِمالة أو العمل أُجَراء عند البعض لتوفير ما يلزمهم من ضروريَّات الحياة.
ولعلَّ السَّبب الذي جعل المهاجرين يبتعدون عن الاشتغال بالصناعات والحرف هو السبب نفسه الذي أبعدهم عن العمل بالزّراعة؛ وذلك لأنَّهم هاجروا من ديارهم وتركوا أهلهم وأموالهم بغية الجهاد في سبيل الله ونصرة الدين، فكانوا لذلك يتجنَّبون الارتِباط بأي عمل من الأعمال التي تحتاج إلى الاستِقْرار أو الارتباط بما قد يشغلهم عن القيام بتحقيق الهدف الذي هاجروا من أجله، هذا إلى جانب انشغالهم بأمورهم الخاصَّة؛ إذْ لَم يكن لهم عبيدٌ يعملون في خدمتهم، فكانوا يشاركون في الأعمال العامَّة التي يشارك في أدائِها جميع المسلمين، مثل: بناء المساجد وبيوت أزْواج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحفر الخندق، بالإضافة إلى الأعمال الأخرى التي كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يكلفهم بها مثل تعليم القرآن الكريم والإفتاء والأذان والتناوب في رعْي إبل وأغنام الصدقة والركاب المربوطة في سبيل الله، وحراسة النبي وكتابة الوحي والمكاتبات الأخرى مثل كتابة العهود والمعاملات.
وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قدوةً لأصحابه، فكان يشاركهم في جميع الأعمال العامَّة الَّتي يقومون بها، ويُروى أنَّه كان يقوم بنفسه بوسْم إبل وأغنام الصدقة، كما كان يخرج إلى السوق ليقضي بعض حوائجه بنفسِه، كما يروى أنَّه في بيته يكون في خدمة أهله يخصف النَّعل ويرقع الثياب.
وهكذا نَجد أنَّ المهاجرين من أصحاب النَّبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يَحترفوا في المدينة أيَّ عملٍ يتكسَّبون منه سوى التّجارة، أمَّا الذين لم يعْملوا بالتجارة، فقد تفرَّغوا كلّيًّا للجهاد وطلب العلم ومعاونة النبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في رعاية شؤون المسلمين، وكانوا عند الحاجة يقومون بأعمال يتكسَّبون منها، ولم نجد منهم من انصرف تمامًا إلى أيّ مهنة من المهن المعروفة في ذلك الوقت.
لقد تبيَّن لنا من خلال العرض السَّابق لأحوال المهاجرين ومعيشتهم على عهْد رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حيثُ اتَّضح لنا أنَّهم لم يشغلوا أنفُسَهم بأيّ من أمور الدنيا أو مكاسبها، بل نذروا أنفُسَهم لنصرة الدين، فكانوا بذلك نواة لجيش مسلم مرابط في سبيل الله، ينفر أفراده خفافًا لتلبية النداء في أي وقت، لا يشغلهم عن ذلك مال ولا أهل ولا ولد، يكتفون في معاشهم بما يحصلون عليه من غنائم، فينفقون منها على أنفسهم وفي سبيل الله، وكان النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حريصًا على إطعامهم وتدبير معاشهم عندما ينفد ما يَحصلون عليه من غنائم.
وتبين لنا أنَّ الزّراعة هي النشاط الرَّئيس لسكَّان المدينة من عرب ويهود حينما قدم المهاجرون إليها، ولم يشارك المهاجِرون في العمل بها كي يتفرغوا للجهاد في سبيل الله، وقد زاول بعض السكَّان بالمدينة التجارة، وقد سمح الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأصحابه من المهاجرين بمزاولة التجارة لخبرتهم السَّابقة؛ حيث كان لديهم القدرة على الجمْع بين الجهاد في سبيل الله والاشتِغال بها، حيثُ إنَّ بعضَهم حقَّق ثروة عظيمة من التجارة، كما يوجد بالمدينة بعض الحرف والمهن التي عمل بها السكان مثل الصناعات والحرف، ولعلَّ السَّبب الذي جعل المهاجرين يبتعدون عن مزاولة تلك المهن هو السَّبب نفسه الذي أبعدهم عن العمل بالزراعة، فالمهاجرون كانوا يتجنَّبون الارتباط بأيّ عمل من الأعمال التي تؤدّي إلى الاستقرار، ممَّا قد يشغلهم عن القيام بتحقيق الهدَف الذي هاجروا من أجله.
وهكذا نستخلص ممَّا سبق أنَّ المهاجرين من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لَم يحترِفوا في المدينة أيَّ عملٍ يتكسَّبون منه سوى التِّجارة.
وبالرَّغم من عدم ارتباط المهاجرين بعمل دائم بقصْد التكسب، فإنَّهم كانوا مع ذلك لا يفرغون، فإمَّا في جهاد وغزو، أو يقومون بمساعدة النبيّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما يكلّفهم به من أعمال، هذا بالإضافة إلى قيامهم بخِدْمة الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - والسَّهر على مصالح الأمة، وكانوا مع ذلك مشتغلين بحِفْظ الحديث وضبطه أو قِراءة القرآن الكريم وحفظه في صدورهم.
المصدر : موقع الشام اليوم
أثر المهاجرين في الحياة الاقتصادية في العهد النبوي