الشروق المنطفئ
كان يجلس في ذلك الركن المنزوي خارج المقهى، لا يملك التصريح لدخولها ..... القطعة النقدية الحمراء.
حين كانت والدته على قيد الحياة، كانت من حين لآخر تمضي له أربعة أو خمسة تصاريح، تمكنه من دخولها، أما الآن، فقد ولى عهد الشعار الديمقراطي " عاشت أمي ... عاشت أمي ".
حتى شقيقه الوحيد، المتزوج من امرأة فولاذية، لا يستطيع أن يمضي له أي تصريح، دون إذن مسبق منها، بل يكفيه تناول تلك اللقمة السوداء تحت نظراتها التهكمية.
توقفت أمامه سيارة مرسيدس سوداء اللون، انعكست صورته على بابها الأمامي، فلاحظ الجزء السفلي من جسمه أطول مرتين من جزءه العلوي، فبدا شكله معوجا و مضحكا، فتبسم.
فُـتح باب السيارة، و نزل منها شخصا مرتاح الملامح، لون ملابسه كلون سيارته، كذلك نظاراته الشمسية السميكة، و كسّرت ذلك اللون الحالك، لمعة صفراء ذهبية، تدلت من عنقه، لتنتهي بقرص يشبه إلى حد ما تلك التصاريح، إلاّ أنها أكبر قيمة منها بكثير.
إلتفت الخيال الأسود يمينا و يسارا، ثم أطلق صوته الجهوري : يا إلهي !!! لا شيء تغير فيك يا أزقة الحي العتيق.
ثم رمق صاحبنا من فوق إطار نظراته الثمينة بنظرة ثاقبة، و بنصف ابتسامة خاطبه: كيف حالك يا علي ؟
تفاجأ علي و نظر عن يمينه و يساره، مرددا في نفسه : هل هذا الرجل يكلمني؟
ثم رد عليه مترددا: بأفضل حال ... شكرا... هل تعرفني يا سيد؟
فرد عليه الخيال الأسود و هو يضم قبضة يده ملوحا بها: أظنك اشتقت لبعض اللكمات من قبضتي يا سكوبيدو.
" سكوبيدو"، هذا اللقب، لم يسمعه علي منذ ستة أعوام، أي منذ أن سافر رياض، فهو الوحيد الذي كان يدعوه بذلك، فرد علي مبتسما بعد أن عرفه: لا تزال قبضتي توجعني من أخر ضربة طبعتها على خدك الممتلئ.
فانفجرا ضحكا و تعانقا كملاكمين من الوزن الثقيل، فكلاهما كانا ضخمي الجثة.
على و ريــاض و ثــالـثــهـــا الـشـجـار، كــانـا لا يلتقيان إلا و يأخدان نصيبهما من تبادل اللكمات و الركلات، دائما في خصام العروش، من يتزعم مجموعة أطفال الحي، لكل منهما شخصيته الفذة والغير انقيادية.
و كل شجار كان ينتهي بعلامة استفهام، من فاز بالعراك؟
بعد العناق الطويل، و الأحضان الساخنة، أخد رياض على إلى مقهى فاخر خارج حدود الحي العتيق لينطلق في سرد قصته المغامرة منذ أن وطئت قدماه أرض الأحلام ... باريس، أين شق طريقه و حقق كل أحلامه التي دفنها تحت تراب بلده ليعيد إليها الحياة فوق تراب بلد آخر...
في المساء، عاد علي إلى غرفته الشبه خالية من كل شيء، تفحص سنية الأكل الموضوعة في ركن الغرفة، سحب الغطاء من فوقها، ليجد ذلك الصحن الصغير، به بعض البطاطا المقلية الباردة، و أربع حبات من الزيتون الأسود، و قطعة خبز بالية و كأنها فرت من الرواية الشهيرة "البؤساء"، ليس من حقه أن يعترض و إلا سمع ذلك الموشح المعتاد من زوجة أخيه، فتصفع خديه بالحقيقة التي تجرعها مند أن توفيت والدته لينسحب معها معاش التقاعد، أنه يعيش عالة في هذا البيت.
أعاد الغطاء كما كان، لا يشعر بالجوع، و ربما لن يشعر به ليومين كاملين بعد وجبة العشاء الدسمة التي تناولها و رياض بأحد المطاعم المبنية على الطراز الأوروبي.
اليوم هو يوم جديد عليه، فنهض مبكرا و هو يسترجع شريط الأمس، لاح أمامه طيف الأمل، مدغدغا قلبه بأصابع الطمع في حياة كريمة، وقف في نفس مكان الأمس، منتظرا صديق طفولته و منقذ شبابه، رياض الذي ضرب له موعدا لينطلق به إلى عالم البزنس، بعد أن وعده بانتشاله من بؤرة الضياع.
تـلــّوت الثواني لتلد الدقائق، و تلوّت الدقائق لتلد الساعات، و الطيف الأسود لم يظهر بعد، بدأت الوساوس تنهش عقل علي، ماذا حدث؟ استنفذ كل الأعذار له، قبل أن يعود إلى غرفته، اتجه ناحية تلك السنية التي بقيت منتظرة ليلة كاملة، فكشف عنها الغطاء مرددا: قدر لا مفر منه.
في صباح الغد تصدرت الجرائد عنوانا واحدا:
تفكيك عصابة أوربية لتزوير النقود متورط فيها مهاجر من البلاد